روعة القرآن ٣
بقلم د. أيمن الجندى ١٩/ ٥/ ٢٠١١
مازلنا مع كتاب «التصوير الفنى فى القرآن الكريم»، الذى يؤسس فيه «سيد قطب» لكيفية تذوق جماليات القرآن الكريم. ومقالة اليوم عن الجرس الموسيقى أو إيقاع الألفاظ. فالقافية التى يستخدمها القرآن تتناسب بشكل إعجازى مع المعنى المراد توصيله، وتتغير أيضا فى السورة الواحدة مع تغير السياق.
■ ■ ■
فمثلا فى سورة الفجر، هناك مقابلات دقيقة فى الموسيقى تناسب صورتى النعيم والعذاب: «كلا إذا دُكّت الأرض دكّاً دكّاً، وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً، وجِىء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى». تلاحظ موسيقى منتظمة الدقات، منبعثة من البناء اللفظى الشديد، بعكس الموسيقى الرخية المتموجة عند وصف أحوال المتقين: «يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعى إلى ربك راضية مرضية، فادخلى فى عبادى، وادخلى جنتى».
■ ■ ■
وقد تتنوع القافية فى السورة الواحدة لتناسب المعنى الذى تريده. فمثلا فى سورة مريم: «ذكرُ رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا..» الآيات، «واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا..» الآيات. وفجأة يتغير النسق تماما: «ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» وكأنه باستخدام النون أو الميم يُصْدر حكماً بعد نهاية قصة، ولهجة الحكم تقتضى إيقاعاً رصيناً بدلا من إيقاع القصة الرضىّ المسترسل، والدليل أنه بمجرد الانتهاء من إصدار الحكم عاد إلى النظام الأول فى القافية والفاصلة: «واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا..» الآيات.
■ ■ ■
الملاحظة نفسها فى سورة النبأ التى بدأت بقافية النون والميم المناسبة لجو التقرير: «عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذى هم فيه مختلفون» فإذا بدأ الجدل تغير الإيقاع هكذا: «ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟».
الشىء نفسه تلاحظه فى سورة «النازعات»: موسيقى سريعة الحركة، قصيرة الموجة، شديدة الارتجاف: «يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة..»، ثم تتغير الموجة لتصبح بطيئة الحركة، متوسطة الطول، لتناسب الجو القصصى: «هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى..» الآيات.
■ ■ ■
وهناك موسيقى الدعاء المتموجة الطويلة الخاشعة: «ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار».
ويتناسب الإيقاع الموسيقى أيضا مع إطار السورة، ففى سورة الضحى يكون هناك جو من الحنان اللطيف والرحمة الوديعة من خلال نظم لطيف العبارة رتيب الحركات «والضحى، والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى..» فلما أراد إطاراً لهذا الحنان اللطيف جعله من الضحى الرائق والليل الساجى، أصفى آنيين من آونة الليل والنهار.
■ ■ ■
لقد ظل القرآن ينفذ إلى القلوب ويستحوذ على الناس بسر غير مفهوم، وربما كان هذا التناسق الخفى هو أحد أوجه روعة القرآن الكريم.
aymanguindy@yahoo.com
http://www.almasryalyoum.com/multimedia/video[b][b]