بعد خمسين عاماً من اليوم
بقلم د. أيمن الجندى ١٦/ ١٢/ ٢٠١٠
يحاصرنا الحاضر بلزوجته، وكأنه يوم طويل متكرر، يأبى أن يزول، يُطبق على أنفاسنا، يُخمد أحلامنا، يتعلق بملابسنا، يلتصق بجلدنا. الوجوه نفس الوجوه، والكلام نفس الكلام، لا يمل من تكراره المسؤولون، الذين التصقوا بالكراسى منذ ثلاثين عاما، فحولوا البحر المتجدد إلى بحيرة راكدة، والريح الحرة إلى هواء فاسد، ونظن أن القمر رحل عن سمائنا، وكفت الشمس عن منح الضياء.
وفى محنة الحاضر ننسى أن الحاضر سيصبح حتما ماضيا، وهؤلاء الذين يطبقون على أنفاسنا الآن سيذهبون مثلما ذهب الذين من قبلهم، حكمة الأجداد الغالية: «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك».
■ ■ ■
أغمض عينيك واحلم، تحرر من الحاضر، وتطلع صوب المستقبل، كلنا ضيوف على الكون، لكننا نظن أننا أصحاب البيت، بل وأكثر من هذا، أحيانا ننسى البيت ونكتفى بهمومنا وأحوالنا، كل ما فعلناه أننا خسرنا الكثير حين أدرنا رؤوسنا عن هذا الجمال.
بعد خمسين عاما من اليوم ستولد أجيال جديدة، بأحلام جديدة، وأفراح جديدة، وأيام جديدة، لن نكون موجودين، ولكن الشمس ستكون موجودة، تشرق كل صباح، وكأنها ولدت الآن لتوها، جديدة مشرقة سعيدة. تحتفل بمولدها السماء فينعقد مهرجان كونى من الألوان البهيجة على شرف الشمس، يصاحبها حتى الشروق.
بعد خمسين عاما من اليوم لن نكون موجودين، ولكن العصافير ستكون موجودة، تستيقظ مبتهجة بالصباح الجديد، تقضى اليوم فى البحث عن الرزق، تتجمع فى أسراب لا يحصيها العد قبيل الغروب. تبدأ أجمل رقصة باليه على خلفية من السماء الزرقاء والسحب البيضاء والأشجار الخضراء، فى مسارات محددة، ثم تتفرق فى رشاقة لا تصدقها العين إلى ما يشبه قوس قزح أسمر رائع البهاء.
بعد خمسين عاما من اليوم سيمتص العشب بشراهة قبلات الشمس، وستتبارى الزهور فى مهرجان اللون، ويفوح العبير مفعما بالحب، وتطير الفراشات فوق الحقول، ويُولد الفراش مع قدوم الربيع، وتقفز الضفادع مثل أطفال صغار، وتتمطى القطة بكسل راقدة فى الظل، وسينبح الكلب مسرورا وهو يهز ذيله الصغير.
■ ■ ■
بعد خمسين عاما من اليوم لن نكون موجودين، ولكن البحر سيظل أزرق اللون، يترقرق ماؤه مثل حلم رقيق، وستسبح الأسماك ويُولد اللؤلؤ ويتنهد الموج ويبتهج المرجان، وحين يأتى المساء سيبزغ القمر وبكيميائيته السحرية يحول السطح إلى بحيرة فضة، وتظهر عروس البحر لعشاقها الموعودين.
■ ■ ■
بعد خمسين عاما من اليوم لن نكون موجودين، ولكن سيبقى الأمل ويُولد أطفال صغار، يصبحون عشاق المستقبل، يفرحون بمباهج الحب، يعمرون البيوت بالأطفال، والذكريات الحميمة، وحين يُطفأ النور فى آخر الليل ستشع طاقة الدفء من النوافذ المفتوحة.
■ ■ ■
بعد خمسين عاما من اليوم لن نكون موجودين، ولكن سيبقى الله، بعد الزمن وفوق الزمن، متفردا بالمجد، منفردا بالعز، مستغنيا بذاته عمن سواه، غنياً عن الخلق والخلق مفتقر إليه، يسجد الكون له، مسبحا بحمد الله رب العالمين.
http://www.almasryalyoum.com/multimedia/video
[b]