(... ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) ( الأنعام:151)
هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم سورة الأنعام, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وخمس وستون (165) بعد البسملة. وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي الأنعام في أكثر من موضع.
ومن خصائص هذه السورة المباركة أنها أنزلت كاملة دفعة واحدة. ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من ركائز العقيدة والتشريعات الإسلامية.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الأنعام وما جاء فيها من ركائز كل من العقيدة والتشريعات, والقصص, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم الذي اتخذناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
من معاني هذا النص القرآني الكريم أن حياة الإنسان هي ملك لخالقه- سبحانه وتعالي- لا يجوز التصرف فيها إلا بما شرع الله من أحكام. فدم الإنسان مصان في الإسلام لا يستباح إلا بأمر بين من الله- تعالي- لا إشكال فيه ولا شبهة. ومن ثم فإنه لا ينبغي قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وقد جعل الله- تعالي- الالتزام بهذا الأمر الإلهي وصية منه ومن صفات عباد الرحمن العقلاء الذين يفهمون حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا كما حددها لهم الله, فالتزموا بحدوده فلا يعتدوها ومن ذلك أوامره بحفظ النفس. فالنفس الإنسانية معصومة, مصانة, محافظ عليها بأمر الله, لأن حقها في الحياة لم يهبه لها إلا الله. ومن هنا فإن الحياة لا تسلب إلا بشرع من الله الذي أنزل في محكم كتابه عشرات الآيات التي تحرم قتل النفس الإنسانية إلا بالحق, لأن قتل النفس بغير حق هو اعتداء صريح علي حق من حقوق الله ولذلك قال الله- تعالي-:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (الأنعام:151). وقال وقوله الحق-: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (الإسراء:33). وقال عز من قائل:... ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق... (الفرقان:68).
والحق الوارد في هذه الآيات الكريمة يفسره قول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدي ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة( رواه الشيخان). ولذلك قال- تعالي-:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلي أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما* ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما( النساء:93,92) وفي تفسير ذلك قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: لزوال الدنيا أهون علي الله من قتل مؤمن بغير حق( ابن ماجة والترمذي).
- وفي حجة الوداع قال- صلي الله عليه وسلم إن دماءكم, وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا, اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد( البخاري).
- وعن عبد الله بن عمر ذ ذ: ذ عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك, ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله- تعالي حرمة منك: ماله ودمه و وأن يظن به إلا خيرا( ابن ماجة).
- وقال صلي الله عليه وسلم-: من أعان علي قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله( ابن ماجة).
- وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله- صلي الله عليه وسلم يقول عن المؤمن المقتول عمدا أنه يجئ يوم القيامة معلقا رأسه بإحدي يديه إما بيمينه أو شماله ذ() عرش الرحمن يقول يا رب! سل عبدك هذا علام قتلني ؟( الطبري).
- وقال صلي الله عليه وسلم-: لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما( صحيح الجامع الصغير).
- وقال من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله, فلا يرح رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا( الترمذي).
ولم يقتصر الشرع في حماية دماء الناس علي الجزاء الأخروي, بل أمر بالقصاص في الحياة الدنيا بواسطة الحاكم حتي تأمن المجتمعات علي دماء أبنائها, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي- ولكم في القصاص حياة يا اولي الألباب لعلكم تتقون( المائدة:45).
ومن معاني هذه الآيات التي سبق عرضها أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا أو معاهدا أو ذميا أبدا, إلا إذا وقع ذلك بطريق الخطأ, فإذا وقع بالخطأ فإن علي القاتل عتق رقبة مؤمنة, ودفع الدية إلي أهل القتيل لأن الإيمان يصون دم المؤمن, والعهد يصون دم المعاهد أو الذمي, والدية تتحملها عائلة القاتل بالخطأ, وهم قرابته من جهة أبيه, إلا إذا عفي أهل القتيل عن القاتل, وأسقطوا الدية عنه باختيارهم. وإذا كان القتيل مؤمنا وأهله ليسوا بمؤمنين فإن الواجب علي القاتل عتق رقبة مؤمنة فقط, ولا دية عليه. وفي حالة عدم توفر الرقبة المؤمنة فإن علي القاتل صيام شهرين قمريين متتابعين توبة إلي الله تعالي- عن القتل بالخطأ.
أما من قتل مؤمنا متعمدا فإن جزاءه هو الخلود في نار جهنم, واستحقاق غضب الله تعالي- ولعنته بالإضافة إلي العذاب الشديد في النار الذي أعده الخالق- سبحانه وتعالي- له في الآخرة.
لذلك أفتي ابن عباس رضي الله عنهما- بعدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا. وأنا بدوري أورد هذا الحكم الإلهي لعل الذين ولغوا في دماء المسلمين وقتلوهم عمدا وترصدا, أن يراجعوا أنفسهم.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
[b]