"العظماء يصنعون ولا يولدون"؛ والتربية صناعة بلا شك، وكل صناعة تحتاج إلى مواد خام، وعلم دقيق يحيل الخام إلى مبتكرات تجعل قيمة المصنوع تبز أصله أضعافا مضاعفة؛ وتزداد قيمته حسب تقدم إمكانات النفع الذي يقدمه للبشر. وكذلك الإنسان. فإلإنسان خلقه الله جاهلا؛ وزوده بآلية التعلم: {وَاللَّهُ أَخءرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـ تِكُمء لاَ تَعءلَمُونَ شَيءئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الءسَّمءعَ وَالأَءبءصَـارَ وَالأَفءئِدَةَ لَعَلَّكُمء تَشءكُرُونَ} *سورة النحل 16/78*. وعملية التربية ذات شقين؛ الأول: من الله تعالى؛ وهو تحقق النجاح فيها، والثاني: من البشر؛ وهو السعي لتحقيق النجاح فيها، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: "الأدب من الآباء، والهداية من الله"...
وقد لفتت نظري آيات سورة طه؛ التي يقول الله تعالى فيها: {وَلَقَدء مَنَنَّا عَلَيءكَ مَرَّةً أُخءرَى . إِذء أَوءحَيءنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى . أَنِ اقءذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَـاقءذِفِيهِ فِى الءيَمِّ فَلءيُلءقِهِ الءيَمُّ بِـالسَّاحِلِ يَأءخُذءهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ. وَأَلءقَيءتُ عَلَيءكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصءنَعَ عَلَى عَيءنِى . إِذء تَمءشِى أُخءتُكَ فَتَقُولُ هَلء أَدُلُّكُمء عَلَى مَن يَكءفُلُهُ فَرَجَعءنَـاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيءنُها وَلاَ تَحءزَنَ. وَقَتَلءتَ نَفءساً فَنَجَّيءنَـاكَ مِنَ الءغَمِّ وَفَتَنَّـاكَ فُتُوناً. فَلَبِثءتَ سِنِينَ فِى أَهءلِ مَدءيَنَ ثُمَّ جِئءتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى . وَاصءطَنَعءتُكَ لِنَفءسِى } *سورة طـه 20/37-41*.
الآيات الكريمات تشير بوضوح إلى عملية سماها الله تعالى: (صناعة)، بدأت منذ الطفولة المبكرة؛ لحماية الوليد الذي يريد الله اصطفاءه لنفسه؛ ليكون نبيا رسولا. والمهمة التي سيتقلدها صعبة للغاية، وهي مواجهة أطغى حاكم جبار في الأرض؛ ثم عليه ـ بعد ذلك ـ أن يخوض معركة الاستقامة مع بني إسرائيل وهم قوم معاندون مشاكسون، فلا بد إذن من صناعة خاصة، وتربية ربانية عالية؛ لتهيئه لما هو مقبل عليه لينجح في المهمة.
ولنتأمل قوله تعالى : { أَنِ اقءذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَـاقءذِفِيهِ فِى الءيَمِّ فَلءيُلءقِهِ الءيَمُّ بِـالسَّاحِلِ يَأءخُذءهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} . حركات عنيفة، خشنة، محفوفة بالمخاوف، ولكن الله تعالى قال: { وَأَلءقَيءتُ عَلَيءكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصءنَعَ عَلَى عَيءنِى .}، فإذا بالمحبة الإلهية تصون التابوت ومن فيه، فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء.
قال ابن كثير رحمه الله: ((قَالَ أَبُو عِمءرَان الءجَوءنِيّ: تُرَبَّى بِعَيءنِ اللَّه، وَقَالَ قَتَادَة: تُغَذَّى عَلَى عَيءنِي، وَقَالَ مَعءمَر بءن الءمُثَنَّى: وَلِتُصءنَع عَلَى عَيءنِي بِحَيءثُ أَرَى، وَقَالَ عَبءد الرَّحءمَن بءن زَيءد بءن أَسءلَمَ يَعءنِي أَجءعَلهُ فِي بَيءت الءمَلِك يَنءعَم وَيُتءرَف وَغِذَاؤُهُ عِنءدهمء غِذَاء الءمَلِك فَتِلءكَ الصَّنءعَة)).
أسفل النموذج
وإذا علمت ما قاله هؤلاء الأعلام، عن معنى (ولتصنع على عيني)، علمت مفهوم السلف لمعنى هذه الصناعة، وأنها التربية الإنسانية له؛ روحا وجسدا، على أنها باسم الله، وبرعاية مباشرة من الله، تأمل معي كيف سيصنع بشر على عين الله تعالى ورعايته. وجاء الظرف (إذ) ليقول ـ والله أعلم ـ إن هذه الصناعة المقصودة لهذا الإنسان العظيم، تتم أول ما تتم في حضن امرأة عظيمة، إنها (أمه)؛ قال تعالى:{ إِذء تَمءشِى أُخءتُكَ فَتَقُولُ هَلء أَدُلُّكُمء عَلَى مَن يَكءفُلُهُ فَرَجَعءنَـاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيءنُها وَلاَ تَحءزَنَ}، قال الألوسي في روح المعاني عن الظرف (إذ): هو ((وقتٌ وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع، إلى أمها وتربيتها له، بالحنو، وهو المصداق لقوله تعالى: {ولتصنع على عيني}؛ إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، وصنيعها على موجب مراعاته تعالى)) ، ثم بعد أن عدد مننه عليه رجع إلى ذكر الصناعة لشخصيته الفذة فقال: { وَاصءطَنَعءتُكَ لِنَفءسِى }.
إن كثيرا من طاقات الأمة قتلت في مهد أمهات جاهلات بحقيقة الإبداع والعظمة المخبوءتين في نفوس أطفالهن، بل إن رؤية الأم الحياة تتحكم كثيرا في مستقبل الطفل بعد تقدير الله تعالى، وقد قال نابليون: ((مستقبل الولد هو من صنع أمه))، ويقول بيتشر: ((قلب الأم مدرسة الطفل)). فلنأخذ ـ معنا ـ حكمة هذين الحكيمين الغربيين ونرحل إلى المدينة حيث نشأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى- في بيت علم ودين, فكان أبوه من رواة الحديث, وكان جده لأبيه من كبار التابعين , كما أن جد أبيه صحابي جليل, وكانت أمه من خيار الأمهات , لذا اجتهدت في حثه على تحصيل العلم الشرعي, ووصيته بالتعبد والسمت الحسن. يقول مالك: (( قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت : تعال فالبس ثياب العلم, فألبستني ثيابا مشمرة وعمَّمتني, ثم قالت: اذهب فاكتب الآن)), قال مالك: ((كانت أمي تُعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه)). فكان الإمام مالك بإذن ربه.