د/ زكى نجيب محمود
هو الإمام عى بن أبى طالب-كرم الله وجهه- الذى قرأت له هذه العبارة فى كتابه "نهج البلاغة" ، و تلك العبارة مؤلفة من ثلاث جُمل، كل جُملة منها تقطر حكمة و تقول حقاً و هى كما يلى:
إحتج إلى من شئت تكن أسيره، و إستغن عمن شئت تكن نظيره، و أحسن إلى من شئت تكن أميره.
و لتكن وقفتنا الآن عند الجزء الأوسط، لأنه موضوع هذا الحديث الذى نجريه الآن: إستغن عمن شئت تكن نظيره، و لست أريد أن أضخم صورتى فى عيني القارىء، بل أروي له حقيقة حياتى و كيف عشتها، مهتدياً بهذا المبدأ، فالله وحده يعلم كم هى حقوقى التى أهدرتها، كلما وجدت أن الحصول عليها يتطلب منى الوقوف بين يدي رجل من طبعه التسلط.
إن أخشى ما أخشاه هو أن تضطرنى ظروف الحياة أن أقف موقف السائل من أحد سؤال المحتاج، لأننى أعلم كيف ينقلنى هذا الموقف من من منزلة الزميل إلى منزلة التابع، فأستغنى حتى عن حقى ، لأحتفظ لنفسى بمكانة النظير، و ربما كانت بينى و بين أحد الأصدقاء أوثق الروابط، فإذا وضع ذلك الصديق فى منصب له سلطان، وضعت صداقته بين قوسين لا أرفعهما إلا بعد أن يزول عنه ذلك السلطان.
لقد أنعم الله علىَّ بما لا أستطيع إحصاؤه، و أعظم تلك النعم هو أنى بحكم طباعى قليل الرغبات، و حتى إذا كانت بي رغبة فى شىء يتعذر الوصول إليه، كان من أيسر اليسر أن أسقطه من حسابى مستغنياً، و كأنما الذى أفلت من يدي حصاة من الرمل.
و أنا مع الشاعر العربى الذى نفذ ببصيرته إلى حقيقة النفس البشرية، فقال عنها إنها تنزع إلى الرغبات نزوعاً يشتد إذا دفعها صاحبها إلى ذلك، لكنها -بطبيعتها أيضاً- تكتفى بالقليل إذا راضها صاحبها على مثل هذا الرضى، أو كما قال:
و النفس راغبة إذا رغَّبتها و إذا ترد إلى قليل تقنعُ
د \ زكي نجيب محمود
من كتاب " قيم من التراث" - فصل بعنوان "قوة المُستغي" صـــ300 -301
[b]