اقصة العقل والدين …منظور مختلف منظور أصح
بقلم: أ.جلال القصاب
المحرر | ساحة نقاش, كلمات ليست عابرة | 2010.09.17
2tweetsretweet
في شوارع مصر العظيمة النابضة بالحياة، بطيبة أهلها، وبتواضع ناسها، ما كدّر نظري إلاّ رجلٌ دفع امرأته بعصبيّة، فأشعرني بما ذهبتُ لمصر لأجله، للمشاركة في ورشة عمل حول (الإسلام والإصلاح) لمركز ابن خلدون، بورقة تجديديّة عن هدر كرامة المرأة، بانقلاب تفسير النصّ القرآني، لنحت مفاهيمه كعصا لضربها وسوْقها إلى بيت طاعة الرجل!
لم تأتِ حادثة ضرب المذيعة السعودية (رانيا الباز) المبرّح على يد زوجها في سياقٍ غريب، فإحصائيات اليونيسيف إلى المنظمات المحلية، إلى الأجهزة الرسمية في المحاكم ومراكز الشرطة، تُؤكِّد أنّ العالَم كلّه يُمارس العنف الزوجي، وتختفي بسببه 60 مليون امرأة عن تعداده سنوياً، وأنّ امرأة من بين اثنتين تتعرض لانتهاكات جسدية وجنسية داخل بيتها، بل 40-60% من الزوجات يُضربن في أمريكا وفرنسا، و80% في الهند، وفي إحدى دولنا الناميّة %69 يتعرضن للضرب حالَ رفضهنّ معاشرة الزوج، أو الردّ عليه بلهجة لا تعجبه!
فالعنف ليس بحاجة إلى (نصّ) يُشرِّعه، بل عكسُه الذي يحتاج، لهذا نُنكر أنّ الله أمر بالعنف ضدّ المرأة لحيثيّة أنّه (أي العنف الجسدي) متوفّرٌ دائماً بدون حاجة لتشريعه، وسبحانه يريد تهذيب الرجل لا إطلاق وحشِه!
الفهم الخاطئ يُكرَّس، حين يبدأ من واقعنا الخاطئ لِيُسقَط على النصّ، هذا خطأ التعامل مع القرآن بدون تحكيم (نظامه) الذي رسمْنا بعض ملامحه في إصدارات جمعيّتنا (التجديد)، ثمّة كتبٌ حاولتْ معالجة النص منها (التي نادت بتاريخيّة النص بمعنى ماضويّته) وتجاوز الزمن له، من ذوي حداثة دينيّة أو محضة، أو ممّن أسّسوا منهجًا مغايرا للنظام المعرفيّ التقليدي الذي قُرئ القرآن به (كالدكتور شحرور)، أو دعوا لتفكيك النصّ (محمد أركون) وفق الأدوات المعرفية واللسانيّة الحديثة لكنّّهم لم يُقدّموا لنا نماذجهم لقراءة معيّنة بديلة، أو دعوا لتثويره بإسقاط القواعد الخاطئة التي تُلجمه عن تفهّم واقعنا العصري (كالسيد فضل الله) (جمال البنا) وعديدٌ سبقوهم.
لكنّ محاولاتٍ دون اكتشاف (نظام القرآن) لفهم انسياب بنية نصوصه، ستظلّ قاصرة، ومعظم الأحيان ستُحوجنا لتجاوزه، أو لتأويله، أو لتفسيره بخارجه (بالواقع، بالحديث، بقواعد الرجال وآرائهم)! و(الكتاب المبين) القيّم كالمسطرة، و(الكتاب المنير) كالمصباح، الذي يكشف الأشياء ويزنُ صحيحها من سقيمها، سواء من (واقع ينبغي تغييره، وحديث ينبغي قبوله أو رفضه، ورجال يُحكم بصحة أقوالهم ومواقفهم، إلى تشريعات تُتَّبع أم تُترك)، سيتحول إلى كتابٍ (مُبان) و(مُنار)، وسيفقد مرجعيته وعلوّه ومعياريته وهدايته الذاتيّة (للتي هي أقوم)، بردّ الأشياء إليه وعرضها عليه، وبهذا سيضحى القرآن لا إمامًا بل مأموما، لا فوق بل تحت، لا أوّل بل يُؤوَّل بغيره، لا ميزانا بل شيئاً (من كلّ شيء موزون)، ولا مُقوِّما (بالكسر) بل مقوَّمًا، بخلاف وصفِه (لا يعْوجّ فيُقوَّم)!
وإنّ تعابير (معالجة الآية) و(حلّ إشكالية النصّ)، تنتمي لثقافة الإدانة التي حُشِر فيها النصّ القرآني، كنصّ مريض أو مشاغِب، ينبغي معالجته وحلّ مشكلته! بدلاً من معاملتِه كدواءٍ، وكمُعلِّمٍ!
لقد أُسيء للقرآن مرّتين: الأولى حين أُسيء تفسيره كعقبة ضدّ التطوّر والحقوق، وأخرى حين فكّرنا أن نزيحه كونه عقبةً، لنمضي بدون تعتعته، متخفّفين من أثقاله!
هذا والرسول (ص) يدعونا أنّه (حُكمُ ما بينكم، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله، لا تزيّفه الأهواء ولا تلبسه الألسنة، مَنْ قال به صدَق، ومَنْ عمل به أُجِر، ومَنْ اعتصم به هُدي) فهل قال به أحدٌ فصدَق؟ أم أنّ الأهواء لبسته ولغطُ الألسنة؟
فبتسييد الممارساتِ التاريخية بشأن المرأة، وتشييدِها كأحكام، ثمّ بإسقاطها على النص ليُبصِّموه عليها، اشتهر كلامُ مفسرين وفقهاء، ثبتت برواجِه خُلاصةُ التفسير والفقه، لتأتي محاكمُنا ونظمُنا المدنية فتجترّ قديمها، الذي صار شرعا وقانونا وثقافة وسلوكاً، وأيضاً تفسيراً للنصّ المطمور.
صارتْ ثقافةً أصيلة تتبرّر بنفسها، بالممارسة، والقهر، وبالكوارث أيضاً لو خُولفت، حتّى أنّه في فهم بليد (للقوامة) و(تفضيل الرجل) و(عدم فلاح قوم ولّوا امرأة)، أعلن أحدُ الخطباء: بأنّ السونامي الذي محق 200 ألف بريئا من مسلمي أندونيسيا، هو غضبُ الله حاق بإندونيسيا لأنهّم ولّوا أمرهم المرأة (ميجاواتى).
النساءُ من جهتهنّ، لم يُغادرن السائد أيضا، ففي دراسة أجراها المجلس الوطني لشؤون الأسرة بالأردن أيّدت 60% حقّ أزواجهنّ بضربهنّ ولو حين إفساد الطبخة!! بل لو أجرينا مسحًا في أيّ مكان لانتهينا للنتيجة نفسها!
لأنّ العصا القديمة (الهراوة) التي كانت بيد الرجل، قد تجدّدت بنصّ الله ولُفّ عليها أوراق مزخرفة بآياته، أنّ الرمح القديم الصدئ الذي آن كسرُه، رُفع عليه مصحفُ الله ليُجدِّد إركاعَنا وإسجادَ المرأة، مُنصتين:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً).
فبماذا لقّموا هذا (النصّ/العصا)؟ وماذا جدّدْنا لنترك النصّ الشريف ينطق بنفسِه، بعكس ما أسّسوه تماماً من ظُلم؟ سنرى مرّةً لاحقة.
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً).
الفهم السائد:
* (قوّامون): الولاية والإدارة والتدبير في البيت، والمجتمع، هي للرجل.
* (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ): الرجال أفضل من النساء ديناً وعقلاً وتدبيراً.
* (نُشُوزَهُنَّ): تمنّع الزوجة عن زوجها جنسياً، أو عصيانها له وتمرّدها.
* (وَاضْرِبُوهُنَّ): للزوج تأديب زوجته بالضرب، بما لا يكسر عظمها ولا يُقبّح وجهها.
فسّر ابن كثير (“قوّامون”: أنّ الرجل رئيسها، والحاكم عليها ومؤدّبها إذ اعوجّت, “بما فضل الله بعضهم على بعض”: لأنّ الرجال أفضل من النساء)، وفتاوى الرسائل العمليّة (“نشوز” الزوجة، خروجها عن طاعة الزوج الواجبة عليها، بعدم تمكينه مما يستحقه من الاستمتاع بها، و يدخل فيه إزالة المنفرات المضادة للتمتع والالتذاذ منها، وترك التنظيف والتزيين له، وكذا يتحقق “النشوز” بخروجها من بيتها دون إذنه)، مع أنّه ليس لهم في هذا الفهم والتفسير روايات معصومة، بل النقل عن بعضهم البعض!
وبناء على الفهم التجديديّ الموافق للسان المبين والنظم القرآنيّ:
1. المقام خاص بالأزواج بدليل (واهجروهنّ في المضاجع).
2. الزوجات (الصالحات) (قانتات)، والقنوت هنا يعني توحيدها زوجها والعفّ عن غيره، (حافظات للغيب) أي صائنات لمحاسنهنّ عن غير أزواجهنّ.
3. الزوجة (الناشزة) هي عكس (الصالحة)، والنشوز هو القفز عن الاستقرار، فقانون الزوجيّة يكون نشوزه بتثليث علاقتيه، أي بإشراك الزوجة رجلاً مع زوجها، فالناشزة، زوجة غير (صالحة) أيْ غير(قانتة) مقتصرة عليه، ولا تحتشم (غير حافظة للغيب).
4. مسئوليّة الرجال منع نشوز (خيانة) زوجاتهم، فهم (قوّامون) على عفتهنّ، وليس العكس واجبا، لأنّ الطبيعة (وشرع الله) أجازتْ بعض حالات التعددية الزوجية (أي الشرْكة) لبعض رجالٍ دون آخرين (بما فضل الله بعضهم على بعض)، فكأنّ الآية تُقرأ هكذا (الرجال – بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا- قوّامون على النساء).
5. الأفضلية، بمعنى التفاوت، هي بين الرجال حصراً، وبهذا يسقط فهم تفضيل الرجل على المرأة! والنساء المتزوجات متساويات، تحظى الواحدة منهنّ برجل واحد فقط (حفظاً للأنساب ولعفاف المرأة ولقيم الأسرة)، وإضافة أكثر من زوج هو النشوز بعينه.
6. طاعة الزوجة لزوجها، هي في هذا الشأن فقط، وإلا فهي ليست “زوجة” له، بل “مشاع”، وأمور البيت تُدار بالتفاهم والتشاور والاحترام.
7. (الضرب) استعمال وسائل الشدّة لمنع الخيانة، لا الأذى الجسمانيّ، وهو آخر أدوات هذه القضية فقط، لغاية هذه (الطاعة) فقط، بدليل (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا)، فما من سبيل لاستعمال الزوج أسلوب الشدّة مع زوجته ولا لإلزامها بطاعة ولو أشركت بالله، إلاّ لمنع خيانتها الزوجيّة له، لتعود زوجة صالحة.
فالملخّص:
مسئوليّة (الرجال) أن يظلّوا (قوامين) على عفّة زوجاتهم، لدرء احتياج عاطفي أو مادّي، وليس على (النساء) مسئوليّة منع أزواجهنّ من الشريكة الحلال، نظراً لأنّ (بعض الرجال) دون (بعض)، لظروف خاصّة زادهم اللهُ زوجةً ثانية، هذه (القوامة) لحفظ الزوجة عن الشريك، تعرفها الزوجة (الصالحة) بلا تعليم وتحفظها بلا رقابة.
ثمّة استثناء لزوجات غير صالحات، يُحاولن (النشوز) على قانون الزوجيّة المقدَّس لإدخال شريك ثالث، فينبغي للأزواج منعهنّ بممارسة (القوامة) بالتوفّر جنسياً، وبالإنفاق المادّي الذي يقيها الحاجة، فإنْ حاولت مع هذا نشوزاً أي خيانته، وليس خيارهما الطلاق، فعلى الزوج (والمجتمع) أن يضبطها بتعليمها القيَم، واعتزالها جنسياً لإشعارها بالتبرّؤ من فعلها ونتائجه، وإن لم ينفع فبوسائل القوّة (من الزوج أو مؤسّسات المجتمع) لردعها عن الخيانة، فإن أطاعت الزوج وصانت عرضه ونسله وقانون الفضيلة، فلا موجب آخر في أيّ مسألة لممارسة أيّ من وسائل القوّة مع المرأة.
فلتنزيه عدالة الإسلام، علينا:
1. تقديم القرآن على فهم الرجال، لشطب القوانين والنصوص، التي تبخس المرأة حقّها المُكافئ للرجل في الكرامة والتمكّن من المصادر والفرص، في المناشط الحياتية.
2. تصحيح مفاهيم الأحوال الشخصية، التي تُعرّف (النشوز) خطأ! ثُمّ تُشرِّع للرجل (الضرب) عليه! وتُكرِّس (القوامة) بمعناها السلطوي، وتستخدم مصطلح (الطاعة) في عقوده الزوجية، وإنشاؤها كعقود (تمليك) المرأة للرجل! ما يُبقيها قاصرةً أبدا تحت أهلها ثمّ زوجها!
3. توثيق حقوق الزوج وحقوق الزوجة وواجباتهما في عقود الزواج، وتأسيس ثقافة تمنع الالتباس في ماهيّة (النشوز) وبالتالي ممارسة (القوامة)، (النشوز) ابتغاء الزوجة رجلاً آخر غير زوجها، و(القوامة) واجبات الزوج ومسئوليّاته في منع ذلك، وحقوقها هي كحقوقه تماماً من (دراسة، عمل، مهارات كالسياقة، مشاركات مجتمعيّة وسياسيّة، حرّيتها الذاتية كمالِكٍ، حرّ، ومسئول).
4. ينبغي تجريم العلاقات الجنسية خارج العلاقة الشرعيّة للرجل المتزوّج وبالخصوص للمرأة المتزوّجة، وتجريم أيضاً الضرب البدنيّ للزوجة، وعلى المجتمع أن يُحدِّد، قانونياً، أنماط السلوك المشين المُعدّ (نشوزاً)، والمستوى النافع المسموح للشدّة الملائمة لعلاجه، بناءً على دراسات وملاحظات ونتائج.
ومع ذلك يبقى: (متى كان الرجل حقوقًا فقط، فقد خلا من العقل، ومتى كانت المرأة واجبات فقط، فقد خلت من القلب، وخلا الاثنان من معنى الروح!!)