هكذا غني طاغور..
ولد شاعر الهند العظيم رابندرانات طاغور عام 1861 بمدينة كلكتا في أسرة هندوكية معروفة بالمكانة العلمية والوجاهة الاجتماعية ، ويصف طاغور عائلته البنغالية بكلماته علي أنها نتاج «الاندماج بين ثلاث حضارات، الهندوكية والإسلامية والبريطانية» . فالانتماء الطائفي لأسرته لم يمنع مواطني بنجلاديش -وأغلبهم من المسلمين- من الشعور بالتوحد مع طاغور وأفكاره ، ولا تزال أشعاره وأغانيه تتردد في أنحاء الجزء الشرقي من الهند وفي كل أنحاء بنجلاديش، كما أن رواياته ومقالاته لا تزال تقرأ علي نطاق واسع بالرغم من وفاته عام 1941.
وقد درس طاغور في انجلترا قليلاً، ولكنه طاف بها وبأوروبا كثيراً ، ونشأت بينه وبين شعراء أوروبا وأمريكا علاقات وثيقة، خاصة عزرا باوند وويليام ييتس. وفي عام 1914 نال طاغور جائزة نوبل للآداب عن ديوانه «جنتجالي» (قربان الأغاني) فكان أول شاعر شرقي يحظي بها. وفي العام التالي، منحته الحكومة البريطانية لقب «سير» و هو اللقب الذي أعاده لها احتجاجًا علي الأعمال القمعية التي قامت بها عام 1919 بإقليم البنجاب.
كانت لطاغور فلسفة خاصة في التعليم وقد أسس مدرسة ثم جامعة تتلمذ فيها نوابغ الهند المعاصرون مثل عالم الاقتصاد الشهير أمارتيا سين. وهو بجمعه بين الفلسفة والقيادة الفكرية والثقافية في شبه القارة الهندية وبين موهبته في الشعر والكتابة والرسم يعد من أندر شعراء العالم في العصر الحديث.
المختارات التالية من المجموعة التي صدرت في ثلاثة أجزاء عن الدار العربية للكتاب بطرابلس عام 1989.
دُمي
ما أسعدك أيها الطفل الصغير
وأنت جالس فوق التراب
تلعب طوال الصباح بغصنٍ صغير
إني أضحك من لهوك هذا بذلك
الغصن المكسور
أما أنا فمستغرق استغراقًا كاملاً
في جمع أرقامي، ساعات وساعات
ربما رمقتني مفكرًا ساخرًا قائلاً في ذهنك
يا لها من لعبة غبية يضيع فيها الصباح
أيها الطفل، لقد نسيت فن اللعب
بأكوام الوَحل والعصيّ
إني أبحث عن دُمي غالية
وأجمع أكوامًا من الذهب والفضة
وأنت تستطيع خلق ألعابك المفرحة
بكل ما يقع تحت يدك
أما أنا فإني أبدد وقتي وقواي
في سبيل أشياء لا أنجح أبدًا
في الحصول عليها
وأجهد نفسي وزورقي البدائي الخفيف
لعبور بحر الشهوات وأنسي
أن زورقي هو الآخر
.. مجرد لعبة
حرية
التحرر من الخوف
هو التحرر الذي أطلبه لك
يا وطني العزيز
الخوف، ذلك المارد الخيالي
الذي صاغته أحلامك المعوجة
التحرر من أثقال السنين
التي تحني رأسك
وتكسر ظهرك
وتعمي عينيك
عن نداء المستقبل الساحر
التحرر من جذوع الكسل والخمول
التي تقيد بها نفسك إلي جمود الليل
مرتابًا في نجمة الليل التي تشير
إلي طريق المغامرة في سبيل الحقيقة
التحرر من نقيصة الإقامة في
عالم من الدمي توجه حركاتها
خيوط بلا عقل، ومكررة بلا معني
بحكم العادة والمألوف
حيث الشخوص تقف في طاعة سلبية
منتظرة محرك الدمي
يوقظها برهة قصيرة
من غفوتها، لتقلد الحياة تقليدًا هزيلاً
أورباشي
أيتها المرأة
لست من خلق الله وحده
ولكنك أيضًا من خلق الرجال
الذين يجعلونك بقلوبهم
جميلة
فالشعراء نسجوا لك شبكة
من خيوط الأخيلة الذهبية
والرسامون أعطوا دومًا
لهيئتك خلودًا جديدًا
والبحر يقدم إليك لؤلؤة
والمناجم ذهبها
وبساتين الصيف تمنحك زهورها
لكي توشيك وتكسوك
وتجعلك علي الدوام
ثمينة غالية
وشوق قلوب الرجال
بسط مجده
علي شبابك
فصرت نصف امرأة
ونصف حلم
متي؟ ولماذا؟
حين أحمل إليك، يا طفلي الصغير
دُمي متعددة الألوان
فإني أفهم سر وجود العديد من الألوان
في الغيوم والماء
وأفهم لماذا كانت الزهور ملونة
وحين أغني لترقيصك
أفهم حقًا لماذا توجد موسيقي
في أوراق الشجر
والأمواج ترسل أناشيد
أصواتها المائية حتي تبلغ قلب الأرض المصغية إليها
حين أقدم الحلوي إلي يديك الشرهتين
أفهم لماذا يوجد العسل
في أكمام الزهر
ولماذا كانت الفواكه مليئة
بالعصير اللذيذ
وحين أقبلك من أجل أن تبتسم
يا حبيبي، أفهم يقينًا
تلك البهجة التي تنثال من السماء
في ضوء الفجر، وأي متعة
يمنحها نسيم الصيف إلي كياني الجسدي
حين أقبلك من أجل أن تبتسم
جني الثمار
هذه السلسلة المرصعة بالجواهر
إنها تزينني
لتسخر مني
وحين تطوق عنقي
تؤلمني
وتخنقني حين أحاول نزعها
إنها تقبض علي حلقي
وتخنق غنائي
لو كان في وسعي أن أهبها لك
يا مولاي
حينئذ فقط سأكون حرًا
فانزعها عني
وعوضًا عنها شدني إليك
بإكليل من أكاليلك
لأني أشعر بالخجل
لأن أقف أمام سدتك
بهذه السلسلة المرصعة بالجواهر
التي تطوق عنقي
شكر
أولئك الذين يسلكون طريق الكبرياء
ساحقين تحت أقدامهم المخلوقات المتواضعة
مغطين خضرة الأرض الغضة
بآثارهم الدموية
يبتهجون ويرفعون الشكر إليك
يا إلهي
لأن هذا اليوم يومهم
ولكني أشكرك لأنك جعلت
نصيبي مع الفقراء المتواضعين
الذين يتعذبون
ويتحملون عبء التسلط
موارين وجوههم
خانقين خفقات قلوبهم في الظلام
ذلك أن كل خفقة من خفقات آلامهم
قد نبضت في الهاوية الخفية من ليلك
وكل إهانة قد حواها صمتك الكبير
إن الغد لهم
أيتها الشمس
لتشرقي فوق القلوب الدامية
التي تتفتح في أزهار الصباح
وفوق فجور الكبرياء الليلي
الذي تحول إلي رماد
أيتها الأرض
أيتها الأرض
لتقبلي اليوم تحيتي
آخر تحية
ترفع إليك في هيكل اليوم الذي يزول
أنت بطلة، يتحقق فرحك في الأبطال
أنت جميلة وقاسية
امرأة ورجل في وقت واحد
تزعزعين حياة الإنسان بصراعات لا تطاق
باليد اليمني تملئين الكأس بالرحيق
وباليسري تبددينه بددًا
وفي مكان لهوك يتردد صدي السخرية الصاخبة
إن حياة البطل، وريث الحياة النبيلة
ترهقينها وتجعلينها قاسية
إنك تجعلين من العسير بلوغ الخير
وليس في قلبك رحمة للبائس
إن الصراع من أجل البقاء الذي أخفيته
في أشجارك
يظهر انتصاره في الثمار والغلال
أيها العالم
أنت محبوب وقاس، قديم، وجديد علي الدوام