<="" p="" border="0">
Bookmark and Share
تخيل نفسك معتصرا حسرة من خيبة الأمل في حياة كنت تتمناها وقدمت بالفعل عليها ولم تجدها, أو كلمة حلوة تمنيتها من شريك حياتك في لحظات صعبة ولم تسمعها, أو مجاملة اجتماعية لك في مناسبة تخصك أو تخص أحد أقاربك ولم تجدها
أو نزهة بسيطة كنت تحلم بها في أوقات ضيق ولم تتحقق, أو نظرة حزن تراها في عيون أبنائك لحرمانهم مما يتمتع به أصدقاؤهم وتعجز عن محوها, سلسلة إحباطات تتراكم وتتراكم ثم تنفجر لتدمر صاحبها, بل تدمر كيانا أسريا بأكمله والفاعل بخيل, كل العذابات السابقة يتسبب فيها البخل فالزوج البخيل لا يشعر بمن حوله, ولكنه يشعر بنفسه ويري احتياجاته فقط, ويتسبب في تعاسة كل من حوله وهو يبرر لنفسه أنه علي حق من أجل المستقبل, أبحرنا في محيط أصحاب هذه الصفة فكان هذا التحقيق.
بحثنا عن المعانين لداء البخل, فوجدنا معظمهم نساء وأطفالا لأن البخيل هو الزوج أو الأب الذي قرر ظلم نفسه وأسرته, وتكررت الحكايات المأساوية ومنها ما تحكيه أمل عابدين زوجة شابة تعمل محاسبة ولديها طفلان بالابتدائي تقول رغم زمالتي لزوجي في العمل قبل الزواج إلا أنه لم يبد بخيلا, وكان يبرر حرصه بأنه يدخر لإتمام متطلبات الزواج, ولكنه بعد الزواج اختلف تماما, فهو أغلب الوقت في المنزل يتابعنا في مأكلنا ومشربنا ويلفت نظري لطعامي بحجة المحافظة علي رشاقتي رغم أنني نحيفة, حتي غسيل الملابس يتهمني بالإسراف فيه مما يجعلنا ننفق أموالنا في استهلاك مسحوق الغسيل والكهرباء, بل يؤلمني جدا عندما نجلس بجواره علي مائدة الطعام فيلتهم المهم فيه بسرعة, ويتفرغ للنظر في كل لقمة عيش نمد يدنا بها إلي أي طبق أمامنا, لذا أحاول دائما تلبية احتياجات أبنائي من راتبي وأطعمهم قبل حضور أبيهم للمنزل حتي أتجنب الصدام معه حول الطعام, ولكني بعد فترة أصبحت أشعر بأنانيته تتنامي, بل أشعر بأنه يكرهنا لأننا سبب في إنفاق أمواله التي يشقي بها طوال الشهر كما يكرر لنا, فبالتدريج أصبحت أعيش معه بلا روح ولا حب.
أما عبير محمد طبيبة ولديها بنتان فتقول: زوجي مهندس ميسور الحال جدا ولديه شركة مقاولات, ولكنه يعيش في المنزل كما لو كان موظفا بسيطا, فلا يترك كل كبيرة وصغيرة إلا ويحاسبنا عليها ويماطل في شرائها وقد يمتنع, ولا يخصص لي مصروفا للمنزل ولا يعطيني مصروفا شخصيا أشتري منه احتياجاتي الشخصية أو طلبات بناتي, لذا أتحمل أنا كل ما نحتاجه رغم أن راتبي صغير جدا بالنسبة لدخله, وفقدنا مع الوقت أغلب علاقتنا الاجتماعية مع الأهل والأصدقاء بسبب بخله الشديد وعدم مجاملته لأي منهم في أي مناسبة, وبالتالي أصبحنا لا نتزاور مع قريب أو غريب, حتي أنا لا أتذكر أنه أهداني هدية في أي مناسبة حتي أعياد الميلاد كل مايسمح به هو إعطائي بعض الجنيهات لشراء مكونات كيكة أعدها في المنزل, لذا أنا دائما محبطة ولا أجده يلمح هذا الإحباط ويحاول دعوتي لأي مكان نمضي فيه وقتا جميلا بل دائما منشغل وليس لديه الوقت, وعلينا تدبر أمورنا, لذا يتحمل أشقائي هذا العبء, فدائما يدعونني وبناتي للخروج معهم في المصايف أو السينما والحدائق وهذا ما يهون علينا وإلا كنا انفجرنا من زمان فالحياة التي كنت أعيش في بيت أهلي حياة أفضل وأهنأ.
كلمة النهاية وصلنا في نهاية رحلة البخيل لكلمة النهاية, التي دفع زوجته لوضعها حتي يتوقف استنزافها المادي والعاطفي, فالمرأة يمكنها أن تضحي وتقف بجوار الزوج حتي يقف علي قدميه ليعوضها شقاءها, ولكنها لا تقف بجوار زوج بخيل يستغلها ويبخل عليها وعلي أولادها, فهنا تري الطلاق أفضل, فهل هذا أيضا رأي المتخصصين؟
تري د. سامية الخشاب أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة أن البخل صفة ممقوتة لها آثارها السلبية علي الأسرة فتقول: الزوج البخيل يحرم زوجته من احتياجاتها الطبيعية والأساسية لأنها في نظره كماليات وترف, وهذا مردوده علي الزوجة سيئ جدا فهو يدفعها لكراهيته وعدم الاستمرار في العيش معه, لأنه يخالف توقعاتها الطبيعية طول الوقت, ولا أتحدث عن طموح الزوجة وتطلعاتها ولكني أتحدث علي المستوي الطبيعي في الحياة, فالبخل انحراف سلوكي يحرم الأسرة من الأكل والتعليم الجيد, وإقامة علاقات اجتماعية ناجحة مع من حولهم, وبالتالي يدفع الزوجة لاتخاذ قرار الطلاق خاصة إذا كانت زوجة تتمتع بالاستقلالية ولديها دخل وأهل يستطيعون احتواءها مع أولادها, وإذا كانت تخشي اسم مطلقة اجتماعيا وليس لديها القدرة علي الاستقلال ستعيش مع هذا الزوج البخيل وهي تحتقره وتكرهه لأنها لا تستطيع اتخاذ قرار إيجابي بالطلاق,
أو هناك احتمال آخر قد يظهر في المستويات الاجتماعية الفقيرة ماديا وهي الانحراف الأخلاقي حتي تستطيع توفير المال الذي تحتاجه لإطعام نفسها وأولادها, وفي كل المواقف التي تتخذها الزوجة أمام بخل زوجها فالمتضررون هم الأبناء, لأنهم يكبرون علي كراهية الأب الذي حرمهم المال والحب والحنان, لأن الحب والحنان لابد أن يترجما بشكل مادي للزوجة والأبناء, بل إن الاطفال قد يتمنون الخلاص من الأب للاستمتاع بأمواله التي يحرمهم منها, لأنه طوال الوقت ينمي لديهم الشعور بالدونية بين أقرانهم لأنهم لايملكون مايمتلكه أصدقاؤهم من ملبس ومأكل, مما يدفعهم للعزلة الاجتماعية عنهم ويفقدون الثقة بأنفسهم, وبعض الأبناء في مرحلة المراهقة قد ينحرفون بسبب بخل الأب, فينضم الابن لعصابة للسرقة أو تجارة المخدرات ليتوافر لديه المال الذي يريده وكذلك الفتيات قد يعشن فريسة لمن يعطيهن الأموال مقابل أي شيء.
وعن التفسير الاجتماعي لداء البخل تقول د.سامية: الإنسان البخيل قد تكون تنشئته الاجتماعية وراء اكتسابه لهذه الصفة, أي أنه مر في صغره بتجارب حياتيه صعبة جعلته يعي قيمة القرش نتيجة خروجه من بيئة فقيرة جدا جعلته يدرك قيمة المال, أو قد يرجع البخل إلي سمات شخصية خاصة به مثل الأنانية الزائدة لدي بعض الشخصيات تجعلهم يهتمون بأنفسهم فقط دون الآخرين.
شخصية أنانية
الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي يفسر لنا شخصية البخيل قائلا: البخيل شخصية أنانية غير قادرة علي العطاء ولا يرغب فيه منذ صغره, فإذا راجع من حوله طفولته سيجده كان يخشي علي ألعابه ويستغل الآخرين في اللعب بألعابهم, فالبخيل يعاني نوعا من إضطرابات الشخصية أولي أو ثانوي فالاضطراب الثانوي يكون نتيجة خوف البخيل من الزمن والشعور بعدم الأمان فيحاول الحفاظ علي كل قرش لديه, والحوار معه غير مجد لأنه لن يتغير ولكن يمكن التعديل فيه نتيجة مروره بحدث قوي جدا في حياته يجعله يتغير جزئيا, مثل صراعه بين أمواله وحياة أحد أبنائه إذا ماتعرض لحادث, فيضطر ينفق المال لإنقاذه من الموت, عدا ذلك فالحديث لايغيره لأن دائما لديه مبرر لنجله وهو شعوره الدائم بعدم الأمان والاحتياج المستمر.
وعن مدي تأثير البخيل علي أفراد أسرته يقول دكتور جمال فرويز: تأثيره خطير علي أسرته لأنهم يشعرون بفقد الحنان والترابط الأسري, وقد ينجرفوا إلي الانحراف, بالإضافة إلي تعرضهم للتعثر الدراسي وعدم النجاح دراسيا, وتظهر عليهم ملامح الشخصية السيكوباتية أي المضادة للمجتمع, نتيجة وعوده الكثيرة بتلبية إحتياجاتهم في المستقبل ولاينفذ منها شيئا مستندا لمبررات كثيرة, خاصة لو كانت زوجته تعمل ولها راتب فسوف يستغلها للإنفاق علي المنزل وإحتياجات أولاده. كما أن البخيل ماديا بخيل عاطفيا, خاصة إذا كان يعاني إضطراب الشخصية الأولي وليس الثانوي لأن الثانوي بخيل مادي فقط, والأولي لايهتم بمن حوله ماديا ونفسيا, ولايهتم بإرضاء زوجته حتي بالكلمة.
وعندما سألنا الدكتور جمال هل البخل مرض وراثي؟ أجاب: البخل قد يورث للأبناء من خلال معاناتهم في التنشئة من بخل الأب, فعندما تأتي لهم الفرصة في الكبر وامتلاك المال يصيبهم الخوف من فقده والعودة إلي حياتهم الأولي والحرمان, لذا يخافون علي المال وعلي المستقبل ويتكرر نموذج الأب فيهم, فالبخل اضطراب في الشخصية والتنشئة الاجتماعية.
ناقص دين
اما رأي الدين فواضح في المسيحية والإسلام, ففي المسيحية من أهم التعاليم الدينية وأشهرها قصة الغني الغبي الذي يكتنز الأموال دون هدف أو الاستفادة منها أولاده وفي الإسلام الكثير من الآيات في القرآن الكريم تحثنا علي تجنب البخل وتمدح صفة الكرم فيقول الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية: البخل من السمات الممقوته في الإسلام لأنه يتسبب فقد صاحبه لأحد أركان الدين الإسلامي ألا وهو الزكاة والصدقات وهو شخص غير مؤمن لأنه لايثق في الله بأنه سيرزقه أموالا بدلا مما أنفقها في سبيله, وهذا يتضح في قول الله تعالي في سورة آل عمران الآية رقم 081 ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله, هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوفون مابخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير,
كما أن البخل له أثر ضار علي أسرة البخيل والرسول صلي الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار, فالبخل أثره سيئ في النفوس وسببا في قطع صلة الأرحام ويدعو للحقد والجسد والبغضاء, لذا فهو نقمة علي صاحبه وذنب لابد أن يتوب عنه. صفة البخل قديمة وتناولها الأدب العربي والغربي فكان كتاب الجاحظ عن البخلاء, ومسرحية البخيل للأديب الفرنسي موليير, كما تناولتها الدراما المصرية في مسلسل البخيل وأنا قصة وبطولة فريد شوقي, بهدف توضيح أثر هذه الصفة علي الأسرة بل المجتمع, وها نحن نعيد التذكرة ونوضح العواقب ليشفي كل مبتلي من هذا الداء وينير الإيمان صوره ليصبح سيد قومه بدلا من أن يكون عبدا لماله.