عام يقترب على اندلاع ثورة يناير التى أطاحت بنظام ظل سنوات طويلة يفرض جبروته فى كل مكان.. وتهز الصدمة الكثير من الثوابت والقيم التى حاولت السنوات أن ترسخها فى العمل وفى المدرسة وداخل بيوتنا.
الكثير من الأسر التى كان أفرادها نسخا كربونية أخذت تتلون بألوان فجر الثورة المختلفة. مشهد الاختلاف ليس فقط صراع أجيال كالذى ترصده السينما دائما، أو اختلاف ثقافات أو مستويات اجتماعية.. لكنه ببساطة ثورة اختلافات.. أو اختلافات ثورية.
البعض مازال مصدوما والبعض الآخر خائفا.. وهناك أيضا المتفائلون.
لكن يبقى سؤال الثورة مطروحا: متى نخشى من هذا الاختلاف ومتى نتفاءل به؟
نعمة عيسى- أم لثلاثة أبناء، بنت وولدين، الأول مهندس ومتزوج والثانى مهندس ومتزوج أيضا، أما ولاء فتعمل مترجمة للغة العبرية 72 سنة، وتتحدث عنها الأم قائلة: بعد ما كانت بنتى بتخاف منى وما تقدرش تقول لى لأ، بقت تستهين بآرائى بل وتسخر منها، وتقول لى انتم عملتوا ايه مفيد فى حياتكم!! احنا اللى جبنالكم حقوقكم.
وتكمل الأم: وإذا حاولت انتقاد ما يحدث فى الشارع من مظاهرات فئوية مثلاً.. وقلت أن هذا ليس فى مصلحة البلد، وأننا يجب ان نصبر ونتحمل حتى تستقر البلد ح تقوم الدنيا ولا تقعد.. وترد «آه نصبر كمان ثلاثين سنة ح لا مش الجيل ده.. احنا جيل دمه حامى، مش سهل نتنازل عن حقوقنا زيكم».
وتستطرد «على قدر فخرى بها وبجرأتها فى نزولها للتحرير ووعيها السياسى الكبير، على قدر خوفى عليها ليس فقط من النيران والقنابل، لكن أصبحت أخاف عليها من عدم سماعها لى أو لوالدها فهى لا تسمع إلا صوتها».
ابقوا قابلونى لو فلحتم
ترد ولاء على حديث والدتها قائلة: الحكاية ليست كما يتصورون، ولكننا جيل كانوا يتهمونه دائما أنه فاشل.. حتى جلوسنا على النت والفيس بوك كان دائما مادة لسخريتهم.. وآراؤنا كانت مُنتقدة ويُستهان بها طوال الوقت .. حتى أن والدى رفض زميلاً لى فى الجامعة وقال إنه إنسان ليس له طموح لأنه رفض العمل فى دولة عربية وفضّل العمل فى بلده وعدم إهانة كرامته فى الغربة .. وهو الآن شاب ناجح.. رغم أنه كان دائما يقول لى ابقى قابلينى لو فلح.. أقصد أن ليس كل ما يراه الكبار يكون صوابا وليس كل ما يراه الصغار خطأً .. وتكمل ولاء «لما نجحت الثورة.. ثم تصمت وتكمل بإصرار نعم نجحت، رغم أنهم يقولون لى دائما أن الثورة لم تنجح بعد وأننا لو استمعنا للكبار لنجحت وأنا أقول وأؤكد أنها نجحت وسنستمر.. أنا أحب والدىّ وأحترمهما لكن أريد أن يثقوا بقدراتنا أكثر ويؤمنوا أننا نستطيع عمل ما لم يستطيعوا فعله.
الثورة جعلتنا بنى آدمين
علاء الليثى مهندس 85 سنة، يقول تعبت فى حياتى واجتهدت ودرست وبنيت نفسى بنفسى وتزوجت وأنجبت ابنا وحيداً كان هدفى تأمين مستقبله وضمان عيشة كريمة له من بعدى.. وبعد كل هذا، يأتى اليوم الذى يكبر ابنى «أحمد» فيه وبدلاً من شكرى.. يستخف بى ويرفض طاعتى .. فهو وحيدى وأخاف عليه من النزول للميدان وكنت أحاول منعه وأقول له أنه ممكن أن يساعد بشتى الطرق دون تعريض نفسه للخطر .. فإذا به يتهمنى بالجُبن والتعود على العبودية .. ويشير على نفسه بيده ويقول وكأنه يحدث نفسه.. أنا جبان؟! أنا تعودت على العبودية؟؟ ويكمل لا والأدهى أنه عندما أحاول إقناعه أنه لو انتبه لمذاكرته ودروسه ليصبح بنى آدم ناجحًا سيخدم الوطن بصورة أكبر من وقوفه فى الميدان .. يرد علىَّ قائلا «الثورة هى اللى جعلتنا بنى آدمين» طيب يا سيدى على عينى ورأسى لكننى أعتقد أن الإنسان بعمله وحده يستطيع البناء وعموما هذا رأيى أم أن حرية الرأى مقتصرة على الشباب فقط!!
ويضيف المهندس علاء: أمه تشجعه رغم أنها تموت طول فترة خروجه من المنزل ولا أفهم لِمَ تشجعه على هذا.. وبسؤال المهندسة منى أجابت ضاحكة.. ابنى وحيد ومنطوى ومنذ بدأت الثورة تغير وأصبح أكثر انفتاحاً وتحرراً، ورغم خوفى عليه إلا أننى أجد أن هذا شيئًا يضيف إليه وإلى شخصيته إذا لِمَ لا أدعه يتعلم وينول خبرات لن يأخذها منّا.. «أحمد» شخصية جميلة ومتفردة وكان ينقصه الجرأة والآن الحمد لله أصبح يكتسبها يومًا بعد يوم من نزوله وسط الشباب وما يراه هناك وهذا وجه الخلاف بينى وبين والده .. فهو يريده بجانبه تحت جناحه وهذا خطأ وليس بمصلحته بل بمصلحتنا نحن وأنا أراها أنانية شديدة.. وتجرؤ أحمد فى الحديث مع والده ليس سوء أدب ولكنه يدافع عن حريته التى هو بحبه الزائد يحاول أخذها منه.
أنت مش راجل
أما أحمد.. فيقول ردا على والده أنه عندما كان يخطئ أو يخاف من شىء أول كلمة تخرج من فم والده كلمة .. أنت مش راجل!! والآن بعد نزوله الميدان وسط الشباب والرجال هو يحاول بذلك أن يكون رجلا بنظر أبيه الذى رغم ذلك يسمى ما يفعله لعب عيال!!
ويكمل أحمد.. أنا مصر على لعب العيال لأنه أسقط رئيسا طاغية وهيعمل مصر جديدة رغم كل اللى بيحصل.. ويتنهد ثم يقول .. مهما عملنا عشان نثبت كم نحب هذه البلد لن يكون كافيا، ولكن يكفينا شرف المحاولة.
تقول كريمان الهوارى 06 سنة وأم لثلاثة أبناء وابنة، تقول عنها أنها منذ فترة وهى مهتمة بما يحدث وتقرأ بشكل مستمر ولكن كانت تقرأ دون اهتمام لمجرد المعرفة، ولكن بعد ثورة 52 يناير تغيرت نظرتها حتى لقراءة الجورنال مشيرة إلى أنها من سكان محافظة دمياط، وهى بعيدة عن الأحداث التى تجرى فى القاهرة وبعيدة عن ميدان التحرير، ولكن مع أول زيارة لها فى القاهرة نزلت الميدان وزارت شارع محمد محمود، «الاهتمام بالأحداث حاليا خرج من كونه اطلاعًا على ما يجرى إلى أكثر من ذلك ليصبح إحساسًا بالمسئولية والمشاركة».
وتكمل: أولادى أيضا لم يكن لهم اهتمام قبل ذلك بالسياسة، ولكن الآن أصبحنا كلنا نهتم بما يحدث بل ونتناقش يوميا فى آخر المستجدات حتى أولادى الذين يعملون فى السعودية عندما نتحدث على الإنترنت لا يخلو حديثنا من الكلام عن مصر، وما يحدث وقبل الانتخابات فيوميا نتحدث ونطلع على برامج الأحزاب المرشحة بل ونتشاجر لاختلاف توجهاتنا السياسية ولكن فى النهاية كلنا نتفق على أن مصر فوق الجميع.
القوائم والفردى
زينب محمود ربه منزل 05 سنة تقول: لم أكن اهتم حتى بقراءة الجورنال وكان كل ما يشغلنى القرارات التى تكون متعلقة بزيادة معاش زوجى، ولكن بعد 52 يناير لم أعد حتى أشاهد الأفلام أو الدراما ولا أغير قنوات الأخبار بل أنى أتلهف على مجىء بناتى من عملهن كى أستفسر منهن عن ما يحدث.
وقبل الانتخابات شرحت لى بنتى الفرق بين ترشيح القوائم وترشيح الفردى وكانت معترضة على اختيارى لإحدى القوائم ودار بيننا نقاش طويل لم تفلح فى إقناعى بالقائمة التى رشحتها، ورشحت أنا قائمة ورشحت هى وأختها قائمة أخرى.
هبة يوسف 03 سنة تقول: أنها كثيرا ما تختلف مع شقيقها فمنذ اندلاع الثورة وقد كان رأيه ترك المخلوع حتى تسليم السلطة بينما كنت أرى أنه يجب التنحى فورا، وبعد ذلك كان شقيقى ينزل ميادين روكسى والعباسية وأنا دائما فى ميدان التحرير وفشلت فى إقناعه وفشل هو أيضا فى إقناعى، وفى الانتخابات رشحت أنا قائمة الكتلة المصرية ورشح هو الحرية والعدالة، وتضيف قائلة: حتى والدى أيضا يختلف معنا نحن الاثنان وغالبا ما نجلس بالليل نتناقش فى أحداث اليوم، وتكمل قائلة: قبل الثورة كان والدى لا يتصل بى على المحمول، إلا إذا كان يعطينى أوامر بالرجوع إلى المنزل أما الآن فإن مع أى بيان للجيش أو خبر يتصدر الشاشات يتصل بى ونتحدث ونحلل ما يحدث فى التليفون فلا يطيق الانتظار حتى أرجع.
ونتبادل أنا وأمى النكات التى ترتبط بالأحداث الراهنة، أما أنا وصديقاتى، فأغلب أحاديثنا عن الثورة ومواعيد نزولنا للميدان.
تحرير .. عباسية
أحمد مختار يقول: إن والده كان يمنعه منذ اليوم الأول لنزول الميدان، وهو غير مقتنع ودائما نحن فى نقاش فهو يرى أن الأعتصامات والمطالب الفئوية تعيق أى إنجاز يمكن أن تحققه الحكومة، وأنا أرى أن المجلس متباطئًا، وقد خرجت فى مظاهرات ميدان التحرير ووالدى خرج لدعم الجيش فى العباسية.
ثريا على 06 عاما تقول: من بعد ثورة 52 يناير، وأنا أشعر أنى أحمل مسئولية كبيرة وبناتى على الفيسبوك وتويتر يروجن للأحزاب الليبرالية ويقنعن الجيران والأقارب ببرامج هذه الأحزاب، وتحكى قائلة: كدت أن أفقد أقاربى وأصحابى بسبب السياسة فقد دار حوار عنيف بينى وبين زوجة شقيقى عن الشرطة وتعاملها مع المتظاهرين، لأن ابنها ضابط وهى تدافع عنهم وأنا أتعاطف مع المتظاهرين وأيضا تشاجرت مع شقيقتى بعد أن اختارت حزب النور السلفى وخاصمتها أسبوعاً.
قاعدة من التسامح
عالم الاجتماع الدكتور على ليلة الاستاذ بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية يرى هذا الانقسام أمرا طبيعيا، يرجعه إلى اختلاف الأجيال ، قائلا: «أبنائى وأحفادى لديهم مصادر معلومات أكبر من تلك التى أمتلكها، بحكم تعاملهم الأوسع مع وسائل الاتصال الحديثة، وبالتالى لم تعد أسرنا هى تلك الأسر التى كان يسيطر عليها الأب، وتسود فيها افكاره هو وحده».
وبابتسامة مختلطة المشاعر يعترف الدكتور على بصوت خفيض: «مافيش أب دلوقت يقدر يجبر ابنه ينتخب فلان ، أو حتى يختار بتوع التيار السياسى الفلانى، كل واحد دلوقت ليه رأى مستقل». ويصمت الدكتور على قليلا ثم يضيف مستدركا: لكن لهذا الوضع إيجابياته، لأنه يرسخ لقاعدة احترام الرأى الآخر داخل الأسرة، ومن ثم فى كل مكان، فيمكن للابن الآن أن يدخل بفرحة ودون خوف على والده مستبشرا بأن مرشحيه قد فازوا فى الانتخابات، وهو يعلم أن مرشحى والده لم يفوزوا دون أن يخشى من غضب والده منه، استنادا إلى وجود تلك القاعدة من التسامح والقبول المشترك، باكثر مما كان عليه الوضع منذ سنوات.
ويؤكد على ليلة أن الوضع الذى تعيشه الأسر المصرية الآن هو المدخل الحقيقى لكل القيم الديمقراطية، التى كانت الأسر تشتاق لممارستها منذ سنوات، وجاءت ثورة يناير لتقدمها للمتشوقين لها والجائعين للتحلى بها.
بينما يرى الدكتور محمود الطيب أستاذ علم النفس التربوى بتربية عين شمس أن الاختلاف الحادث الآن هو نتاج لطبيعة العصر، ولاختلافات كانت موجودة داخل كل أسرة ، لكن لم نكن نراها بوضوح ، وإن أكد أنه أمر طبيعى وعلامة صحية.
ثقافة الكورال
هنا تربط أستاذة الفلسفة الاسلامية بجامعة الأزهر الدكتورة آمنة نصير،بين غياب القيم الديمقراطية فى المجتمع المصرى، وبين رغبة ثورة يوليو ومابعدها فى أن تجعل كل أفراد المجتمع- وطبعا الأسرة- نسخا كربونية مكررة، وقتلت الفروق الفردية رغم أن الله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين، ولهذا ظللنا طوال أكثر من خمسة عقود مثل فريق الكورال الذى يردد نفس الكلمات خلف المطرب، يمدح فيمدح الجميع، أو يذم فيذم الجميع، دون أن يقتنع أحد بأسباب المدح أو الذم.
وتتوقف نصير عند ثورة يناير لتراها قد غيرت بعض القيم للأسوأ، فافتقدنا الاختلاف المهذب الخلوق، مدللة على رأيها بموقف رأته بعينها فى الجامعة، عندما انطلقت طالبتان فى أحد الممرات، ودفعت إحداهن أستاذة بقوة وكادت أن توقعها، وعندما استنكرت استاذة أخرى ماحدث من الطالبة ، ردت الطالبة «الرؤوس تساوت»، على أعتبار أن هذا منجز من منجزات الثورة.
وتبدى الدكتورة آمنة حزنها واستياءها من بعض تلك المواقف التى تراها انفلاتا واختلافا غير مهذب، وترى مطالبة الكبار والمعلمين وأولياء الأمور ووسائل الإعلام بمساعدة الشباب على عبور المرحلة التى تسميها (صدمة انفلات مابعد الثورة)، لترسيخ قيمة الاختلاف المهذب.
لكن الدكتورة فادية أبو شهبة الأستاذ بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ،تتفاءل قائلة: صدمة مابعد الثورات لن تستمر طويلا، لكن ستبقى لغة الحوار والنقاش داخل الأسرة ، التى كنا دائما ننادى بوجودها وسط انشغالات الآباء والأبناء، وستبقى حرية الاختلاف، التى أظهرتها الانتخابات داخل كل أسرة وكل عائلة، حين رأينا أن الزوجة اختارت مرشحا غير الذى اختاره الزوج، وغير ما اختاره الأبناء، بل إن بعض الأبناء كان لكل منهم مرشح مختلف وينتمى لتيار مختلف، كل حسب قناعاته، فلم يعد الأمر صراع أجيال فقط، بل واختلاف ثقافات أيضا، وإن بقى الفقر هو الوحيد الذى جمع المختلفين أحيانا على إختيار واحد يعتقدون أن بيده حل مشكلاتهم، بحسب رأى فادية فى حصول جماعة الاخوان المسلمين على أعلى الأصوات فى الانتخابات.
وتتفاءل أيضا الدكتورة إقبال السمالوطى عميدة كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان قائلة: الثورة كونت منطقا للاختلاف، وبالتالى لاختبار كل فرد لاختياره، فقد تكون بعض الآراء غير صحيحة وبعض الاختيارات غير سديدة، لكن لايمكن لأحد اكتشاف الرؤية الصحيحة إلا إذا منح فرصة الاختلاف، كما حدث فى الانتخابات، التى بدونها لا يمكن أن نختبر صحة اختيارنا، لتقودنا النتيجة إلى اختيار الأفضل بعد ذلك، بناء على اختبار حقيقى ووعى مستند على الخبرة.
[b]