طفل صغير.. عيونه بريئة.. أشعث الشعر.. يغطى ملامحه تراب الشوارع.. تستره ملابسه الممزقة بصعوبة، يميل لونه للزرقة من شدة البرد ويرتدى فى قدمه شبه حذاء.. ضاعت ابتسامته من قسوة الأيام، وربما من قسوتنا نحن.. نعم، فهذا الطفل الذى يمد يده لنا محاولا رسم ابتسامة على وجهه لربما يمكنه التأثير علينا لإعطائه جنيها أو اثنين.. يُهان فى اليوم ألف مرة دون أن يشعر من أهانه بالذنب للحظة أو بالغصة لإحراج طفل برىء.. فهذا ابن الشارع..
المتطفل الزنان.. وربما اعتقدنا أنه حرامى أو يحمل مرضا معديا!! فلطالما عاملناه من هذا المنطلق.. ولكن لم نفكر يوما من أين جاء هذا الطفل وما الذى يجبره على الوقوف ساعات فى الإشارات على قدميه الصغيرتين بدلا من اللعب مع من فى سنه أو حتى الذهاب للبيت كى يرتاح أو يأكل.. لم نسأل أنفسنا مَن سيكون هذا الطفل بعد عشر سنوات.. بعد كل هذه السنين من الإهانة والذل.. تُرى ماذا سيكون نتاجها؟!
سمعنا عن جمعيات خيرية تساعد أطفال الشوارع.. لكن الحقيقة أن الأطفال أنفسهم لم يسمعوا عنها.. سمعنا عن مشاريع بملايين الجنيهات للأطفال ولكن لم يستفد منها طفل واحد من أطفال الشوارع كما نسميهم.. نزلنا لأرض الواقع نسمعهم لنعرف قصصهم منهم مباشرةً وليس من برامج التلفزيون أو فيلم تسجيلى.. فقد قررنا أن نفعل شيئا آخر غير مصمصة الشفايف وقول يا عينى يا حرام.. قررنا أن نعطيهم الفرصة للكلام وسرد قصصهم.. والحديث عما يحزنهم وعما يسعدهم.. إذا وُجد..
نفسى أرتاح فى البيت..
فرح جمال - 7 سنوات سمراء اللون عيناها تحمل شقاوة الدنيا.. كما يظهر عليهما الإرهاق الشديد كانت الساعة السابعة ليلا عندما شاهدتها أمام كنيسة العذرا فى مساكن شيراتون.. كان البرد قارصاً وكانت ترتدى شبه تريننج سوت خفيف بمبى يزيد من سمارها.. جاءت وأنا أركن سيارتى وبيدها كيس مناديل وتقول «جنيه واحد بس» فسألتها وبعد ما أديكى الجنيه.. هتروحى؟ فضحكت بسخرية وقالت «لا لسه بدرى».. فسألتها ولكن ده آخر كيس معاكى فقالت «هروح اشترى غيره وأكمل لف».. فسألتها عن اسمها.. فترددت قليلا ثم قالت «فرح» ليه؟ فضحكت لأطمئنها وقلت لها: أدينا بندردش.. ثم سألتها: أين تسكن.. فنظرت لى بشك وريبة ولم ترد، فأعدت عليها السؤال فأجابت: «ليه بس عايزة إيه من سكنى، قولى بس هتاخدى المناديل وتجيبى جنيه ولا تسيبينى فى حالى؟»، فضحكت وقلت لها: أنت تحتاجين للفلوس وأنا سأساعدك فى الحصول عليها، ففوجئت بها تقول لى: «آه أنتم جمعية خير بقى؟!» فقلت نعم فردت باستهزاء طيب سيبينى فى حالى بقى فاستوقفتها «ليه بس ده أنا هساعدك..» فقالت: أبويا هيموتنى لو عرف أنى وقفت أحكى معاكى.. سيبينى الله لا يسيئك.. فقلت لها: طيب بس قوليلى بتروحى مدرسة؟ فنظرت لى نظرة غريبة كما لو كانت تود أن تقول لى إنت البعيدة غبية ما بتميزيش.. لكنها اكتفت بقول لا مابارحش يا ريت أروح زى نهى جارتنا بتروح ومبتشتغلش وبترجع تعمل واجبات وبتنام بدرى.. فسألتها وأنت ماينفعش تروحى المدرسة فهزت رأسها نفيا وقالت ببراءة: «لا ماينفعش أصل منار أختى بتتجوز ولازم يبقى معانا فلوس الجهاز» فسألتها: ووالدك بيشتغل إيه؟ فقالت موظف فى الجامع فسألتها: هل يعلم أنك بتنزلى تبيعى مناديل؟ آه آمال هنزل من وراه.. سألتها «وأنت ساكنة قريب من هنا؟» فتنظر لى ويعلو صوتها فجأة «لاااا احنا ساكنين بعيد قوى فى حته اسمها القليوبية» وفجأة ظهرت أختها «هنا» ذات الاثنى عشر عاما سمراء اللون أيضا ولكنها منطوية.. أكثر حزنا.. وأكثر نحافة وعيناها بهما خوف لا أستطيع تحديد أسبابه.. تلبس ملابس خفيفة وتلف طرحتين حول رأسها كحجاب، جاءت بعينين متسائلة عما يدور بينى وبين أختها فقلت لها: أنا يمكننى مساعدتكما فى إيجاد عمل بدلا من بقائكما فى الشارع هكذا.. فردت على «فرح» الصغيرة بسرعة «مش عايزين» فى حين أن (هنا) أختها نظرت لى وسألتنى: «أى عمل؟» فقلت لها تساعدين فى شغل بيت مثلا أو تتعلمى أى صنعة يدوية..
فسألتنى: «كام فى اليوم؟» فقلت لها من 01 الـ 51 جنيها.. فسقطت عيناها على الأرض كمن سقط منه أمل فى قاع محيط وسكتت.. فسألتها: كم تكسبين يوميا؟ «فقالت الحمد لله» فردت فرح بسرعة 03 أو 53 جنيها كل واحدة فينا ونعطيها لأبويا.. فسألت (هنا) هل دخلت مدرسة؟ «لا» فقلت لها: كيف تذهبون ليلا إلى القليوبية لوحدكم مش خايفين؟ فقالت لى «لا ما بنخفش» فسألتها لم أنت حزينة؟ فابتسمت بصعوبة وقالت «لا أنا مش حزينة أنا بس تعبت عايزة أروح» فسألتها: كم أخ وأخت لديك؟ عندى أخوان صغيران «أحمد ومحمد» وأخواتى الكبار سما ومنار واحدة متجوزة وواحدة مخطوبة وأختى فرح اللى واقفة دى فسألتها أحمد ومحمد فى المدرسة؟.. «لا محدش فينا دخل المدرسة غير منار وسما وأنا دخلت بس خرجت من تانية لما منار اتخطبت عشان أساعد أبويا فى الجهاز!!» ومنار عندها كام سنة؟.. «فاضلها 6 شهور ويسمحولها تكتب الكتاب».. نفسك فى إيه يا (هنا)؟ صمتت قليلا ونظرت بعينها لبعيد وكأنها تتخيل شيئا ما.. ثم تهز كتفيها فى حيرة «معرفش» سألتها: مش عايزة حاجة.. أى حاجة.. مش عايزة مثلا تروحى مدرسة؟ فترفع رأسها لتنظر لى متسائلة: «هو ينفع أصلا أنا خلاص كبرت على التعليم..» فقلت لا يا ستى تقدرى تكملى تعليمك فى محو الأمية فتحتار عينايها وتذهب لبعيد مرة أخرى وتصمت فسألتها: إيه رأيك فى الولاد الصغيرين اللى بيروحوا ميدان التحرير ويولعوا فى المبانى وبيقولوا بياخدوا فلوس كتير؟ «لا مش صح..» فترد فرح الصغيرة «لا مالناش دعوة بالكلام ده» فأسألها طيب لو حد قالك تعالى أديكى 0001 جنيه فى اليوم واحرقى البيت ده هتوافقى؟ هنا ردت فرح سريعا: «لا طبعا واحنا مالنا» ولأول مرة رفعت (هنا) رأسها ونظرت فى عينى ولم تخفض رأسها كالعادة.. فسألتها وأنت يا (هنا) هل ستوافقين؟ ظلت تنظر لى حتى قالت بعد مدة: «لا» «فسألتها ليه لأ؟ «عشان حرام» ثم قالت «ربنا يزعل منى» فسألتها إيه أكتر حاجة بتضايقك وانت بتشتغلى؟ فنظرت للأرض مرة أخرى وقالت «لما حد يقولى.. امشى الله يسهلك» ورأيت الدموع تلمع فى عينها.. ثم سألت فرح نفس السؤال فقالت «لما واحدة بنت صغيرة زيى تبصلى بقرف وكأنى جربانة» ثم ضحكت ولا أظن أنها كانت ضحكة من القلب ولكنها ضحكة المرار.
إيجار البيت
على - 9 سنوات - لم أستطع تمييز لونه إن كان أسمر أم أن ما بوجهه هو سمار الأيام والشوارع.. لا تختلف ملابسه عن ملابس فرح فهو يرتدى تريننج رمادى اللون أو هكذا أصبح لونه، قابلته فى عباس العقاد كان يحمل علم مصر وكنت أحمل الكاميرا وجاء «على» ليطلب طلباً.. أن ألتقط له صورة قائلا: «أبلة ممكن تصورينى؟» والحقيقة أننى كما فوجئت بطلبه فوجئ هو بموافقتى وكأنه كان يتوقع ألا أرد عليه أصلا ولكننى نظرت إليه وقلت له: سأصورك.. فوجدته يرفع العلم أمام وجهه وأنا أصوره فقلت له كيف سأصورك هكذا لن يظهر وجهك فضحك بخجل وقال: «أصل وشى مش نضيف..» فابتسمت وقلت له: بس وشك جميل اضحك يلا وشيل العلم.. فضحك ونظر على استحياء وصورته، فأدار ظهره ليمشى فسألته هتاخد الصورة إزاى؟ فنظر لى متعجبا «مش عارف» فسألته أنت بتعمل إيه هنا؟ فسكت ونظر لطفل آخر يحاول استعطاف سيدة لإعطائه جنيها وكأنه يقول لى هذا ما أفعله تماما.. فسألته لماذا لا تعمل أى عمل بدلا من الشحاتة؟! فى راجل يشحت؟ فقال لى: «كنت أعمل مع ميكانيكى ولكن كان يعطينى 5 جنيهات فقط فى اليوم وهذا لا يكفى إيجار الشقة.. «فسألته وماذا عن أبوك وأمك؟» أمى تعيش معى ومريضة لا تستطيع العمل وأخى الأكبر 51 سنة تركنا من سنة وأبويا مات أو سافر مش عارف «إذن أنت من تصرف على البيت؟» أنا بجيب إيجار البيت وخالى ساعات بيعطى أمى فلوس.. وأخوك لا يسأل عنكم؟! لا كان بينزل معايا وفى يوم نزل ومرجعش.. «طيب يمكن حصل له حاجه؟» لا ما اعتقدش أصله كان زهقان وبيقول لأمى أنا نفسى أطفش «وكل الحمل بقى فوق راسك أنت؟» ما يجراش حاجه بكره تفرج «وبيتك فين؟» فى 4 ونص «وبتروح إزاى؟» مع العيال بليل بنركب مكروباص «بتلم كام فى اليوم؟» ليه؟ عادى يا على مش هحسدك.. «لا عادى مستورة ساعات 05 وساعات 06 وفى العيد ساعات 001 وكده.. إيجار الشقة كام يا على؟ 053 جنيه» نفسك فى إيه يا على؟ يصمت «على» ثم يقول.. «نفسى ألعب كورة مع العيال دى» ويشير بيده إلى مجموعة من الأطفال تلعب فى جنينة أمام منزل ومن الواضح أنهم أبناء سكان المنزل.. ثم يكمل على: «كل أما أروح أطلب منهم ألعب معاهم ما يرضوش.. ومرة ندهوا أبوهم وضربنى بالشلوط.. مش عارف ليه؟!!» ويصمت برهة ثم يكمل: «أنا بستحمى كنت بستحمى كل يوم فى الصيف بس الدنيا بردت والماية ساقعة قوى ما بقدرش استحملها والأنبوبة غليت بقت بـ 52 جنيهاً فبستحمى مرة فى السبوع لما أمى بتسخن الماية..» لا أعلم لم قال لى على تلك الملاحظة عله يبرر اتساخ وجهه وملابسه أو ربما يبرر لنفسه رفض الأولاد للعب معه.. وسألته: ونفسك فى إيه تانى؟ «نفسى أشوف حسن أخويا» ليه؟ «وحشنى.. وعشان كمان مش بلاقى حد يدافع عنى لما حد بيضايقنى أو يضربنى.. حسن كان بيجبلى حقى» وإيه أكتر حاجة بتزعلك؟ لما حد بيمد إيده عليا.. أو يشتمنى.. وينظر فى الأرض.. هذا «على» ولكن يا ترى أين حسن وما مصيره؟
بنام على الرصيف
أحمد عبد الله 21 سنة ذكاؤه يظهر عليه بشدة.. رغم نظرات الغضب التى تملأ عينيه الزرقاوتين.. يرتدى جينز ممزق وبلوفر أكل عليه الدهر وشرب.. وكاب على رأسه عندما رأيته أحسست للوهلة الأولى أنه رجل (مسخوط) فحركاته والسيجارة التى كان يدخنها وطريقة رفضه للتصوير كلها تنم عن رجولة مبكرة أو طفولة طحنتها الأيام طحناً ولم يتبق منها إلا الحجم الخارجى.. يقول أحمد بعدما أعطيته 5 جنيهات ليوافق على الحديث معى: «أنا من المنصورة.. أمى ماتت وأبى تزوج خالتى بعدها كان فاكرها هتحن علينا زى أمى الله يرحمها..
بس طلعت بت «...» وطلعت عينى ضرب وشتيمه وذل وأول ما أبويا ييجى تشكيلوا منى يقوم مدينى العلقة المتينة من غير حتى ما يتأكد مين الكداب ومين الصادق.. فزهقت وطفشت منهم».. «وكان عندك أخوات؟» آه أخت 4 سنين وصعبانة علىَّ والله أصل الولية دى معندهاش رحمة بس أنا ناوى أول ما ربنا يكرمنى هروح أخودها!
طيب وأنت بتشتغل إيه ساكن فين؟.. «أنا بلقط رزقى يعنى أبيع مناديل ماشى.. أشيل مونة فى عمارة ماشى.. أشيل شنطة ثقيلة على ست ماشى وأهى ماشية.. وبنام فى أى حته ساعات على الرصيف هنا»..
رحت التحرير؟.. «لا والله لسه بس بفكر أروح».. ليه.. اشمعنى؟ «عشان قرشها حلو» وهنا كانت صدمتى.. فسألته قرشها حلو إزاى؟ «فى عيال أعرفهم بيروحوا وياخدوا 051 جنيه يومى» بيعملوا إيه يعنى؟ «والله مانا عارف بيشيلوا ويحطوا حجات ويساعدوا..»! فسألته أحسن يقبضوا عليك؟ «ليه عشان مش معايا بطاقة؟» فقلت: آه ممكن.. «لا ماعتقدش ما العيال كلها معهاش..» تركته وأنا حائرة كيف أستطيع مساعدته وكيف أوجهه للطريق الصحيح.. وماذا أقول له.. تركته وكل ما بيدى الدعاء له.. كى لا يكون مصيره كمصير المسجونين فى الأحداث وغيرهم هؤلاء هم الوقود الذى يشعل به الخائنون نيران غدرهم بهذا البلد الأمين فهل سنكتفى بالدعاء أم أننا سنخطو خطوة جادة لتوجيه هذه الأيادى غدا للبناء بدلا من الهدم والتد[b]