عادت محاسن من السوق تحمل في يديها أكياس الخضار والفاكهة والبقالة. نظرت من بعيد إلي شباكها في الدور الأرضي. كان الحاج بيومي مازال جالسا ينظر إلي الشارع. مسكين مريض له مدة طويلة بدون شفاء منذ خروجه إلي المعاش. كان الرجل شعلة نشاط. يصحو في السادسة. تسمع صوته في الحمام وتسمع وقع قدميه في الشقة وفي المطبخ ثم وهو يصنع إفطاره بنفسه علي السفرة
ويجلس ليأكل فتستحي وتقوم من فراشها تلقي عليه تحية الصباح وتقول: الشاي حالا يا حاج وتسرع إلي المطبخ وتجلس معه تشرب الشاي وتحكي كلمتين ثم تدعو له وهو خارج إلي المصنع. ريس عمال قد الدنيا. تقولها محاسن لنفسها. كان ذلك من سنوات نسيت عددها.. ياه! تذكرت محاسن الآن أنها نسيت كيس فلوسها علي عربة الفاكهة ودق قلبها بسرعة. لابد أنها سرقت الآن. وتمسكت بأمل أن يكون البائع وهو يعرفها قد رآها فاحتفظ بها حتي تعود. يا رب.. أشارت من بعيد للحاج بيومي معتذرة وهي تقول: نسيت حاجة يا حاج عند الفكهاني حأجيبها هوا وراجعه تاني. ما تقلقش! ثم وضعت أكياسها وشنطها عند أم أحمد البوابة وأسرعت ملهوفة عائدة إلي السوق. سألها الفكهاني مندهشا إن كانت تريد شيئا آخر. سألته مخضوضة إن كان رأي كيس فلوسها. كيس فلوسك؟ سألها الفكهاني ثم قال: سلامة عقلك يا حاجة ما إنتي حطاه قدام عينيا زي كل مرة ف شنطة الخضار.
صحيح! تذكرت محاسن الآن ودق قلبها بالخوف من جديد خشية أن تكون أم أحمد قد لمحته وطمعت فيه! لكنها نفت هذا الخاطر بسرعة فأم أحمد عشرة قديمة وهي ست طيبة وأمينة ولا تفعل شيئا مثل هذا لكن محاسن رغم أنها أسرعت تهرول عائدة إلي البيت فكادت أن تصطدم في هرولتها بجارتها الست بديعة التي تسكن في الشارع خلف عمارتهم. سألتها بديعة مدرسة الإعدادي: مالك يا محاسن بعد الشر عليكي؟ حكت لها محاسن الحكاية فضحكت بديعة وقالت تنصحها: ركزي يا محاسن ربنا معاكي.. وأخبار الحاج إيه؟ وحكت محاسن حكايته مع المرض والدكاترة والاجزاخانات وتذكرة التأمين الصحي وكل هذا بلا فائدة.. طبطبت بديعة علي كتفها ودعت لها بهدوء السر وللحاج بيومي بالشفاء القريب ثم حكت لها هي حكاية ابنتها التي تزوجت وسافرت مع زوجها إلي الخليج وحكت عن رسائلها التي تبكي فيها من الغربة والوحدة وأنها لا تري زوجها إلا ساعة في النهار وقالت إنها تريد أن تعود إلي مصر التي وحشتها وكتبت في رسالتها آخر مرة تقول: ملعونة الفلوس التي يتحول بها الإنسان إلي حيوان يأكل ويشرب وينام بلا إحساس. وقالت محاسن: يا عيني.. وحتعملي إيه يا أختي؟ وردت بديعة وهي تخرج رسالتها من شنطة يدها: أنا كمان كتبت لها جواب اطمنها وأقول لها اصبري كمان سنة واللا اتنين وبعدين تعالي واشتري أجدع شقة وأجدع عربية وحتبقي ست الناس. ثم سألت محاسن: مش ده برضه يمكن يصبرها؟! وقالت محاسن وهي تسلم عليها عائدة إلي بيتها: يمكن؟ ده أكيد يصبرها ونص ثم مضت عائدة إلي أم أحمد.
لم تكن أم أحمد جالسة علي باب العمارة ووجدت محاسن الشنط والأكياس علي الدكة كما هي فمدت يدها متوجسة تفتح شنطة الخضار لتجد كيس فلوسها في قاع الشنطة كما هو فاطمأنت. حملت محاسن شنطها وصعدت إلي الشقة.. وضعت الشنط والأكياس علي الأرض وأخرجت المفتاح من كيس الفلوس ثم فتحت ودخلت لتضع كل شيء علي الترابيزة ونادت علي الحاج بيومي ليعرف أنها عادت لكنه لم يرد فقالت إنه لابد قد نام. مسكين المرض ثقيل عليه! دخلت محاسن المطبخ وعملت كوبين من الشاي له ولها حملتهما إليه ووضعتهما أمامه ثم مدت يدها تهزه ليصحو فسقط الرجل أمامها! كان الحاج بيومي قد مات في انتظارها.
[b]