علينا أن نكون كلنا في حضرة خالد الذكر: نجيب محفوظ; فهذا اليوم يصادف ذكري ميلاده المئوية, وعلينا أن نرد عنه في غيبته الأبدية بعض ما يرميه به سفهاؤنا; فهو لم يسلم حتي بعد رحيله; من محاولات الاغتيال الوحشية التي تعرض لها في حياته علي أيدي من يتشدقون باسم الإسلام.
آناء الليل وأطراف النهار; ويدعون أنهم وحدهم وكلاء السماء علي هذه الأرض! وكم أحسنت جريدة الأهرام أيما إحسان حين أتحفت قراءها عامة ومحبي نجيب محفوظ خاصة, بملحق العدد الأسبوعي أمس الأول, المكرس كله للروائي الأعظم في الذكري المئوية الأولي لميلاده(1911/12/11); وقد تم إعداد الملحق بذكاء, ليكون وثيقة أدبية دامغة في وجه خفافيش الظلام!
تعرض نجيب محفوظ من قبل لفتوي ظالمة تضمنها تقرير الشيخ محمد الغزالي عن رواية( أولاد حارتنا), فلم يتسبب في مصادرة الرواية ومنع نشرها في مصر فحسب; بل كانت فتواه بمثابة ترخيص شرعي بإهدار دم صاحب الرواية! وهكذا اندفع أحد أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة ليضطلع بالتنفيذ; سدد طعنته الغادرة الجهول إلي رقبة نجيب محفوظ في أكتوبر1994; فكأنه سددها إلي مصر كلها في سويدائها!
أما آخر محاولة مخزية للنيل من الأديب خالد الذكر; فهي تلك التي سجلتها الصحف السيارة منذ أيام عن أحد قادة السلفيين, فلم يتورع عن وصف أدب نجيب محفوظ بأقذع الصفات, مما لا يصح أن توصف به سوي الكتابات السوقية الرخيصة وغيرها من أدب الإثارة أو الأدب المكشوف; الذي يبرأ منه الأدب الحقيقي براءة علي من دم عثمان! فكشف ذلك السلفي عن جهله بالأدب عامة وأدب نجيب محفوظ علي الخصوص, شأنه شأن الشاب المتطرف الذي أقدم علي اغتيال نجيب محفوظ منذ بضعة عشر عاما دون أن يقرأ له حرفا واحدا! بل إن الشاب المتطرف كان أصدق من القيادي السلفي وأشجع, فقد أقر الشاب بجهله التام بأعمال محفوظ, بينما تكلم القيادي السلفي بعجرفة المتعالم وثقة الحبر النطاسي!
لا يريد هؤلاء أن يستعدوا البسطاء علي المبدعين والإبداع الأدبي والفني فحسب; بل هم فوق هذا يستغلون جهل سواد الناس وأميتهم, ليوقعوا في روعهم أن الديمقراطية كفر! وأن الحرية هرطقة! وأن الإسلام لا يكون إلا بانتقاب النساء أو احتجابهن! ولا يكون إلا بتقصير جلابيب الرجال وإحفاء شواربهم مع إعفاء لحاهم! وكأنهم ينظرون إلي الوراء فلا يرون أسلافهم إلا علي تلك الهيئة وحدها وبهذه الأزياء دون سواها! مع أن الأمر في حقيقته علي عكس ما يصورون!
نعم, كانت هناك دائما فئة متشددة; وستكون علي الدوام; تأخذ نفسها بهذا الفهم الشكلاني المسطح لروح الإسلام, وتعمل جاهدة كلما سنحت لها الفرصة علي أن تفرضه علي غيرها من المسلمين; ولكن ما لا يعرفه هؤلاء هو أن تاريخ الحضارة الإسلامية يشهد بوجود فئات أخري مستنيرة من المسلمين; أعملت عقولها فاهتدت إلي أن الإسلام أعظم من أن يختزل في لباس بعينه, وأسمي من أن يختصر في طرائق حلاقة الشوارب واللحي, وغيرها من شؤون المظهر العام المتغيرة من عصر إلي آخر; ولولا هذا ما استطاع المتنبي أن يواجه بعض أسلاف هؤلاء بقوله, وكأنه ينطق بلسان حالنا اليوم:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم!
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!
فلو كان سائر الناس علي هذه الهيئة في القرن الرابع الهجري, ما كان لشاعر مقدم مثل المتنبي أن ينكرها! ولو أن النساء كن جميعهن منتقبات, لما كان لشاعر آخر أن يقول:
أقبلت غولة الصبايا تخطر في معلم النقاب!
والجهل في الحالين واحد وإن اختلف ميدانه; فاختزال الدين في الزي جهل فادح بتاريخ الحضارة الإسلامية وبجوهر الدين الإسلامي في آن; واتهام نجيب محفوظ من خلال تشويه أعماله الكبري من روايات وقصص; جهل أفدح بفن القص وصلته بالدين علي العموم, وبالنص القرآني علي الخصوص.
ولولا هذا الجهل, لتوقف أولئك السادة من السلفيين; عند قراءة أبي الجوزاء للآية الكريمة, ولكم في القصاص حياة] لتكون قراءته علي هذا النحو:, ولكم في القصص حياة]; وقد أقر ابن خالويه هذه القراءة مفسرا( القصص) فيها بأنه هو القرآن. ولعله لم يذهب بعيدا في هذا التفسير; كما لم يذهب أبو الجوزاء بعيدا في تلك القراءة; فهناك قسم كبير من القرآن الكريم, يقدم المواعظ من خلال القصص الذي يرمي إلي استخلاص العبر, سواء من سير الأنبياء أو من حكايات الأمم الغابرة.
ومن الدلالات المهمة في هذا السياق; أن هناك سورة في القرآن الكريم تحمل اسم( القصص); فضلا عن أن هناك تقويما للقصص القرآني بأنه:( أحسن القصص- سورة يوسف3). ولا يكاد نص مقدس في أية ديانة منزلة أو غير منزلة, يخلو من استيحاء لفن القص, نجد هذا في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد, ونجده في القرآن الكريم, كما نجده في( المهابهارتا) الهندية. ولعل هذا هو ما فطن إليه ابن حنبل في كلمته( ما أحوج الناس إلي قاص صدوق).
غير أن خطورة ما صك به القيادي السلفي أسماعنا, تتجاوز الحكم المشين علي أدب نجيب محفوظ إلي الحكم علي الأدب كله, بل وعلي الفنون كافة! وفي ظل الأغلبية المتوقعة لتيارات الإسلام السياسي في الانتخابات البرلمانية التي انتهينا الآن من مرحلتها الأولي; علينا أن ننتظر حربا ضروسا تشنها تلك التيارات علي سائر فنون الأدب والمسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقي والأغاني! فمن واتته الجرأة في الحديث عن نجيب محفوظ بهذه الصورة العلنية الممجوجة; لن يجد حرجا في الدعوة إلي تحريم أعمال غيره من الكتاب والأدباء والفنانين الأقل شهرة ومنزلة وذيوع صيت! وربما كان هذا الخطر الداهم المتوقع, هو ما يوجب علي الأدباء والفنانين وسائر المبدعين الأحرار, أن يستعدوا من اليوم لخوض غمار هذه المعركة المنتظرة; ولهم أن يثقوا بأن النصر سيكون حليفهم في النهاية, فلا بد للنور من أن ينتصر في الختام علي الظلام, وللعقل من أن يظهر علي الدجل والخرافة; ولكن بشرط أن يتحدوا دفاعا عن حرية التفكير والتعبير كما لم يفعلوا من قبل! هذه هي معركتهم الأولي والأخيرة, خاضوها أو خاضها بعضهم بالأمس في مواجهة الطغاة من الحكام; وسيخوضونها غدا في مواجهة الطغاة الجدد من المتدثرين بمسوح الدين!
علي أن اتحاد المبدعين والمفكرين والأدباء لمواجهة سحابة الظلام التي توشك أن تغطي سماء الكنانة; لتتركها وقد كسفت شمسها وخسف قمرها; لا يعفي المؤسسات الحكومية الأخري من المسؤولية, خاصة وزارات مثل: الثقافة والتعليم والإعلام; فلا أظن أن أيا من هذه الوزارات ستحقق الحد الأدني الممكن من النجاح, ما لم تضع علي قمة أولوياتها الحفاظ علي العقل المصري من التصحر الذي يزحف كالوباء; وسيكون كل وزير مسؤولا أمام ضميره وأمام وطنه في المقام الأول; وستكشف لنا الأيام القادمة عن الأقوياء وأصحاب الضمائر الحية من هؤلاء الوزراء, وكذلك عن الضعفاء والمجاملين وأصحاب المصالح! لنضع كل امرئ منهم في موضعه.[b][b]