أنا البنت الوحيدة لخمسة أشقاء ذكور.. وأنا آخر العنقود لأب تاجر وأم ربة منزل طيبة القلب والقالب.. هي نموذج للست أمينة زوجة سي السيد.. والأب طويل القامة حسن الهندام معتز بنفسه وأمواله وذكوره.
وقد تربيت تربية كلاسيكية علي يد الست أمينة.. هذا عيب.. وهذا أخوك الأكبر منك.. واسمعي الكلام.. وبلاش تخرجي عن طوع إخوتك.. حتي التحقت بالثانوية العامة بالرغم من أن إخوتي لم يتعلم منهم إلا اثنان حصلا بالكاد علي مؤهل متوسط.. والشقيقان الآخران دخلا حياة التجارة مع أبي.. وبنت مثلي تربت علي الواجب والأصول واحترام الأب والإخوة الذكور.. عاشت حياة خانعة.. من المدرسة للبيت ـ للدرس ـ للبيت ـ ممنوع الماكياج ـ ممنوع اللبس الضيق والقصير.. ممنوع خلع الحجاب وأشياء ممنوعة كثيرة كنت أراها عادية جدا بالنسبة للبنات في مثل عمري.
وحصلت علي الثانوية العامة دون الدخول في قصة حب ولو في الخيال خوفا من أبي وإخوتي.. حتي التحقت بالجامعة في محافظة أخري غير التي نعيش فيها.. وسكنت في المدينة الجامعية.. وفي الجامعة رأيت الاختلاط بين البنين والبنات, حيث إنني كنت طوال دراستي السابقة في مدراس للبنات حتي الدروس الخصوصية التي كنت أتلقاها كانت في مجموعات بنات.. لا يعطر جوها ولد واحد.
وفي المدينة الجامعية رأيت البنات أصنافا وأشكالا.. محجبات ومتبرجات.. ضاحكات وعابسات.. ملتزمات.. وخليعات.. محترمات وفاجرات, ولأن الخل يفسد خليله كما يفسد الخل العسل, كنت أعيش وسط كل هؤلاء, وأنا الفتاة الخام القادمة من الريف لضوضاء المدينة التي لا تنام.. وبدأت أتنفس حياة الحرية شيئا فشيئا دون الوقوع في المحظور حتي أحببت شابا زميلا لي.
كان شابا ذا شخصية آسرة.. ودودا.. معروفا في الكلية بخفة دمه ومساعدته للآخرين, ولكنه كان بسيط المظهر, ومع ذلك لا يخلو من وجاهة وأناقة يحسده عليهما الآخرون.
وعشنا قصة حب جميلة, فقد كان أكبر مني بعامين.. وتواعدنا وتلاقينا وتعاهدنا علي الزواج بعد تخرجه, وبالفعل تقدم إلي خطبتي بعد تخرجه وكنت لا أزال طالبة بالسنة الثانية بالكلية, وعندما حضر إلي منزلنا الذي يشبه الفيلا بالرغم من وجوده في قرية.. واجه من أبي سيلا من الأسئلة : إنت بتشتغل إيه.. ومعاك كام.. وهتدفع مهر كام.. وهتجيب شبكة بكام.. وهتعيش فين وإزاي؟
وبالرغم من مشروعية أسئلة أبي.. فإن حبيبي لم يستطع الإجابة لأنه لم يكن يملك حتي ثمن الدبلتين, وعندما أدرك أبي أن العريس خالي الوفاض.. فتح له الباب بهدوء وقال له الزيارة انتهت.. مفيش عندي بنات للزواج.
وكانت ليلتي سوداء.. علقة ساخنة.. تركت آثارها علي وجهي.. إذ كيف أنا بنت التاجر صاحب المال أنظر لشاب كحيان لا يملك شيئا.. وأقسم علي أبي وإخوتي أنني لو قابلته مرة ثانية سيتم ذبحي علي الملأ.
وملأني الخوف والرعب.. وذهبت إلي كليتي مكسورة الجناح والقلب.. وقبل منتصف العام زارني حبيبي في الكلية باسما كعادته وكأن شيئا لم يكن وأخبرني بأنه حصل علي عمل في القطاع الخاص براتب محترم وأنه يستطيع أن يتقدم لخطبتي في نهاية العام ليقدم لأبي ما يريد من شبكة.. وبعدها بعام سيحصل علي شقة لنتزوج فيها ونبدأ حياتنا.. وفرحت جدا بما قال وانتظرت نهاية العام علي أحر من الجمر.. واقترحت عليه ألا يزورني في الكلية حتي لا يعرف أهلي بلقائنا.. وطلبت أن يزورني في استراحة المدينة الجامعية بصفته خطيبي.
وانتهي العام ونجحت وبدأت الإجازة الصيفية ودون موعد مسبق بيننا طرق حبيبي الباب.. ففتحت أمي ورحبت به بطيبتها المعهودة واتصلت بأبي فجاء علي وجه السرعة مكفهر الوجه وبدلا من التحية والسلام قال له : إيه اللي جابك تاني يا حيلة أمك.. فابتسم حبيبي بخجل وقال جئت طالبا يد ابنتك وموافق علي الشبكة التي تريد.. فقال أبي : ألم أقل لك من قبل مفيش عندي بنات للزواج.. مع السلامة.. وطرده دون أن يشرب كوب ماء وأغلق خلفه الباب.
وعلقة ساخنة للمرة الثانية وتهديد بالحرمان من الذهاب للجامعة, بل ووعيد بالموافقة علي أول عريس يتقدم إلي مهما كانت ظروفي.
وفي غضون شهرين وافق أبي علي خطبتي لأحد أبناء القرية.. شاب عادي حاصل علي مؤهل متوسط ويعمل بالتجارة ولديه مال وأعمال.. وبمجرد انتهائي من السنة النهائية تم الزفاف وأنا أبكي.
وظللت أسبوعا كاملا وأنا أرفض اقترابه مني.. حتي أخبر أبي.. فقال له : زوجتك وأنت حر فيها.. إعمل اللي انت عاوزه.. فشكوت لأمي فلم ترد.. وكانت ليلة سوداء لا يكفي وصفها بالاغتصاب والوحشية والسادية أيضا, فلم يرحم دموعي ولا توسلاتي ولا ضعفي.. وانقض علي انقضاض الأسد علي صغير الغزال في يوم حار.
وقبل أن يمر عام علي زواجي.. كانت طفلتي الأولي بين أحضاني.. ومعها نسيت قسوة أبيها وأبي, ولكني لم أنس حبيبي.. كنت أبحث عنه كمن يبحث عن إبرة في كوم قش ولم أعثر له علي أثر.
ومر عام ثان وعام ثالث ورزقني الله بطفلي الثاني.. فازددت وحدة وانعزالا وبعدا عن زوجي, بحيث أصبحت حياتي في المطبخ ومع طفلتي وطفلي.. أعيش معهما وأنام معهما وأبحث عن حبيب ضاع بلا رجعة.
وبالمصادفة التقيت زميلة لنا بعاصمة المحافظة التي نعيش فيها.. وسألتها عنه فأخبرتني بأنه سافر إلي الخارج بعدما طرده والدي وظل ثلاث سنوات بالخارج.. وجاء مؤخرا بصفة نهائية.. وأنه بلا زواج, ولكنه افتتح شركة كمبيوتر.. وعندما سألتها من أين عرفت كل ذلك.. أخبرتني بأن زوجها صديقه.. فأخذت رقم هاتفه منها وكأنني عثرت علي خاتم سليمان.
ولم أتردد في مكالمته هاتفيا..
ولا سيما وأنا أعيش أغلب اليوم مع أبنائي, ولا يحضر زوجي إلا في آخر الليل.. كلمته فلم يعرفني في البداية, وعندما عرفته بنفسي صرخ بصوت عال.. وقال أخيرا وجدتك.. عاوز أشوفك.. ولم أرد.. كيف سأراه وأنا محبوسة مع أطفالي بين نيران زوجي القاسي وجبروت أبي الذي رماني لقمة سائغة في فم أسد جائع؟!
وتعددت المكالمات بيننا وتذكرنا كل شيء بالرغم من أننا لم ننس أي شيء.. والتهبت مشاعرنا واشتقنا للقاء.. ألم تغن فيروز : قد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا.. واتفقنا علي اللقاء.
ولأنني لا أستطيع الخروج من المنزل إلا بصعوبة إلي الطبيب أو لأمر لا يمكن فيه منعي من الخروج, ولأن زوجي لا يعود إلا قبيل الفجر.. ولأن أطفالي صغار ولأن زوجي يسهر خارج المنزل ليلة العيد ولا يأتي إلا بعد صلاة العيد.. فقد اتفقنا أن يزورني في المنزل ليلة العيد وليكن ما يكون وتركت الباب مفتوحا وجاء في موعده.. مطرا يروي أرضا عطشي.. نورا يضيء ظلمة عمري.. دواء يزيل أسقامي بعد جرعة واحدة حتي أذن الفجر واقتحم علينا زوجي خلوتنا.. ولم يكمل ليلته كالمعتاد حتي صلاة العيد خارج المنزل وأمسك في تلابيبه وجاء أهلي كالجراد.. فسحلوني علي الأرض ومزقوا وجهي من الضرب والإهانة.. وأذاقوه العذاب ألوانا ولم يتركوه إلا بعد توقيعه علي شيكات لهم لا أدري ما قيمتها.. وسحبني أهلي معهم بفضيحتي إلي بيت أبي.
ومنذ شهور وأنا حبيسة بيت أبي.. ولا أدري عن أطفالي شيئا ولا أدري ماذا فعل زوجي ولا أدري ماذا سيفعل بي أبي وإخوتي ولا أدري ماذا حل بحبيبي.. وماذا فعلوا بشيكاته ولا أدري إلي أين المصير ولا إلي متي سأظل هكذا.
أفكر في الانتحار.. وأخشي الجنون.. فماذا أفعل؟
المعذبة : ش.م الدقهلية
* يقول المثل الشعبي البليغ :إذا كنت عاوز تصون العرض وتلمه.. جوز البنت للي عينيها منه.
وإذا كان أبوك لم يسمع عن هذا المثل ولم يعمل به لأنه تاجر وليس مثقفا لتنير له ثقافته الطريق.. فكان من باب أولي بك وأنت الجامعية أن تلتزمي حدود الأدب وتحترمي البيت الذي افترسك فيه الأسد كما تقولين وأنجبت منه بنتا وولدا.. وإن لم يكن الاحترام من أجل زوجك.. فكان يجب أن يكون من أجل أبنائك الذين سيلاحقهم العار حتي الموت بسبب أم تقول إنها تزوجت رغما عنها.. وسأصدقك وأقول وأنجبت رغما عنك, ولكن يا عزيزتي لا تزر وازرة وزر أخري انتقاما من جبروت أبيك وقسوة زوجك.. فوضعت نفسك في الوحل ودهست كرامة أبيك وزوجك بالحذاء.. وأرقت ماء وجه أبنائك بقية أعمارهم.
ولنعد إلي رسالتك.. فإذا كان زواجك رغما عنك فهو زواج باطل وأنت جامعية وتدركين ذلك, وكان من حقك ساعتها وأنت زوجة بعيدا عن بيت أهلك أن تخبري زوجك بأنك تزوجته بالإكراه وهذا زواج باطل, فإن لم يطلقك.. فكان من حقك رفع قضية خلع للضرر الواقع عليك من زواج لم توافقي عليه منذ البداية.
ولكنك ارتضيت بما رآه أبوك مناسبا لك.. وتزوجت وظللت أسبوعا تتمنعين ثم التهم الأسد الغزال الصغير في يو م حار.. ثم ماذا؟
استمرت الحياة.. ولم يعد يفترس الأسد غزالا.. وحملت وأنجبت مرة والثانية.. واستمرت الحياة بلا موت راضية بما قسم الله وأبوك وزوجك لك.. وأصبح معك البنون والبنات والبيت والمال, ولكن من سكن القلب لم يفارقه فبحثت عنه حتي اهتديت إليه, بينما لم يبحث هو عنك بالرغم من أن زوجة صديقه زميلتك وكان يستطيع أن يعرف كل شيء عنك بواسطتها, ولكنك من بحثت عنه وهديته إلي العش الهادئ ليهدمه بمساعدتك علي رأسك ورأس زوجك وحياة أطفالك..
ولم يعد يفيد البكاء علي اللبن المسكوب.. فلا الأرض العطشي ارتوت.. ولا النور أضاء ظلمة حياتك.. ولا الدواء جلب لك الشفاء من أسقامك, ولكن ما حدث جلب لك ولأهلك ولزوجك ولأطفالك عارا لا يزول, وربما فقد الحبيب كل ثروته بعد توقيعه علي الشيكات في الليلة المشؤومة.. وبدلا من أن تقولي مع الناس يا ليلة العيد أنستينا.. قلت وللأبد.. يا ليلة العيد فضحتينا.
والآن وبعد أن جاءت الفأس في الرأس.. أعتقد أنه لم يعد يهمك إلا أطفالك.. لأن زوجك لن يسمح لك بالعودة إليه لأنك خائنة, كما أن حبيبك لن يعود إليك لأنه ربما خسر كل شيء مقابل نزوة عابرة.
والحل من وجهة نظري أن تتحدثي مع أبيك بأدب وهدوء لتكون هناك طريقة ما لرؤية أطفالك والاطمئنان عليهم, وكذلك معرفة رأسك من قدميك.. هل أنت لا تزالين زوجة أم مطلقة؟ وأعتقد أن أباك لن يسمح لك بالخروج من المنزل حتي ولو كنت مطلقة وتريدين الزواج من جديد.
فأنت أفسدت كل شيء في لحظة غاب فيها العقل والمنطق, ومع ذلك لا أؤيدك في رغبتك بالانتحار لأنه كفر ويكفيك ما حدث من خيانة, وإن لم يرأف بك أبوك وإخوتك فسوف تظلين هكذا إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.