كان لشيخنا محمد الغزالي نصيحة كتبها فيما يشبه الوصية يحذر فيها الجماعات العاملة في الحقل الإسلامي لأنها غارقة في الخلافات الفرعية والمجادلات النظرية, ناسية أنه لا يجوز ان يرتفع صوت يشغل الناس عن المعركة المصيرية التي تتصل بوجودنا: أنكون أم لا نكون.
وكان شيخنا ينبه المختلفين في الفروع وغافلين عن القضية الكبري, قضية التقدم والتخلف, ويقول ان تخلف العالم الاسلامي في المجال الصناعي والحضاري واضح, وعدم ادراك عواقب هذا التخلف سيؤدي الي كارثة, ويجب توجيه الجميع للعمل والانتاج. والا فالهلاك محقق, والإسلام دين عقائد ومعاملات وأخلاق, وقد تآمرت ظروف كثيرة علي تضليل العقول وتوهين العقائد وتخريب الأخلاق حتي تأخر المسلمون في ميادين لا حصر لها, ويقتضي هذا اتجاه الجهود لإصلاح الأمة أولا.. وإثارة الفتنة في شئون الدين والدنيا ضررها أكبر من نفعها, والمسلمون يملكون ثروات ومع ذلك فإن فقرهم ظاهر والتفاوت بين طبقاتهم شديد, والمسافات بين أبناء الشعب الواحد وبين الشعوب الإسلامية تتسع, وهم غافلون عن علاج مشاكلهم بالعمل والانتاج, وشغلوا بأمور أخري من فقه المذاهب أو من هوي الأتباع, أو من طلب الرياسة وهذه خيانة مخوفة الأثر والواجب تجميع الأمة كلها لتواجه مستقبلها, وتكوين رأي عام يوقظ الهمم ويوحد الصفوف, فليس أمام المصريين والعرب متسع للغو أو التباطؤ, هذا أوان يثوب الطائش, ويجتهد الكسول.
هكذا كان الإمام وهذا فكره ومنهجه في معالجة القضية الكبري التي يجب أن ينشغل بها أبناء الوطن المخلصون المسلمون وغير المسلمين, قضية النهضة والتقدم التي تقف في طريقها الخلافات والاختلافات عقية كبري تبدد وقت وطاقة الإسلاميين بينما واجبهم الانشغال فقط بقضايا اعادة بناء الاقتصاد والتعليم والخدمات وبإقامة الصناعات الكبري واستصلاح الصحاري لاستيعاد طالبي العمل وتحسين أحوال الجميع, والمفسدون هم الذين يبددون الوقت والطاقة في خلافات في فقه المذاهب أو سعيا الي الزعامة..
وكان يقول لنا إن الدين قد يكون منهاجا كاملا للرقي والعمل ولكن لا تصلح الإفادة منه بتبادل معلوماته بين الألسنة والأسماع, ولا باستيعاب احكامه في الذاكرة الجيدة, ولا بالأداء الصوري لعباداته المقررة, فهذا التناول للدين قليل النفع والوقوف بالإصلاح المنشود عند حد الكلام واطلاق المقترحات غير العملية يفتح أبوابا للجدل الفارغ وللثرثرة القاتلة للوقت والجهد, ولو أن كل أمرئ انتقل من الكلام الي عمل منتج لاستطعنا حل أعقد المشاكل.
وكأنه كان يري ببصيرته ما يحدث اليوم في الساحة من أخذ ورد وجدل واجتماعات تتلوها اجتماعات واقتراحات تنقضها اقتراحات مضادة فيقول ان الكلام مع ولاة الأمر قد يكثر ويتسع من غير مسوغ واضح الا أن البعض يطيب لهم أن يتكلموا مع هؤلاء سواء كان لهذا الكلام جدوي أو لم يكن, ولو أن كل واحد انصرف الي عمله يتقنه والي واجبه المنوط به يجيده لكان ذلك أفيد للإنتاج وأزكي عند الله.
وكان يعلمنا أن الأصولية والسلفية وغيرهما لا تعني الجمود والتقليد دون تجديد واجتهاد وعدم التعامل مع مقتضيات كل عصر بما يناسبه, وكما كان الإمام محمد عبده وتلاميذه كان الشيخ الغزالي يبرهن علي أنه ليس هناك أدني تعارض بين الأصولية والسفلية وبين التجديد, وكان يدعو الي بعث الحضارة الإسلامية التي كانت قائمة علي حركة علمية أضافت الكثير إلي المعارف الإنسانية, وحين انتقلت علوم العرب والمسلمين الي أوروبا عبر الأندلس انتقلت أوروبا من عصر الجهل والظلام الفكري والجمود العقائدي الي عصر النهضة.. كما قامت الحضارة الإسلامية علي الأدب والفن والفلسفة ولم تحكم عليها بالكفر إلا في حالة واحدة هي حالة ابن رشد ولأسباب أخري غير مخالفة العقيدة, وليس معقولا أن يعيش المسلمون في القرن الحادي والعشرين كما كان أسلافهم يعيشون منذ أربعة عشر قرنا وكأن الزمن لم يتقدم والحياة لم تتطور, والذين لا يتجددون ولا يقبلون التجديد من غيرهم يأثمون لأنهم يعارضون سنة الله في التطور.. تطور أساليب الحياة.. وتطور الفكر.. وتطور المفاهيم للعقيدة والشريعة.
وفي قضية حقوق المرأة أوصانا الشيخ الغزالي بالرجوع الي الدين الصحيح الذي يحترم المرأة ولم يحظر عليها تولي أي منصب والذين يسيئون فهم الآية الكريمة الرجال قوامون علي النساء بما فضل الله بعضهم علي بعض وبما أنفقوا من أموالهم فهي صريحة في أن القوامة للرجل في بيته وداخل أسرته.
وأبلغ ما تركه لنا الشيخ الغزالي قوله: لا سنة بلا فقه, فلا يطالع رجل كتب الحديث ويردد ما فيها وهو لا يدري ما قبله وما بعده, وقد شاعت أحكام فقهية كثيرة مصدرها هذا الاطلاع الطائش,.. هذه بعض وصايا عالم واسع المعرفة بالكتاب والسنة والفقه والتاريخ.. لعلها تجد قلوبا تهتدي الي الحق ولا تتردد في الرجوع عن الضلال.
المزيد من مقالات رجب البنا
[b]