جغرافيا البشر..
بقلم مفيد فوزى ٢/ ٧/ ٢٠١١
الجغرافيا هى علم الخرائط والمحيطات والأنهار والعواصم والمدن المعلقة على أكتاف البحار وخطوط الطول والعرض. الأطلس هو دليل الإنسان للسير فوق تعاريج القارات التى تعمر كوكب الأرض. إن باستطاعة رجال الجيولوجيا المبحرين تحت الصخور أن يعرفوا مواقع الزلازل والبراكين بيد أن تغيير المناخ فى العالم فاجأ العلماء بكوارث طبيعية لم تضمها الأطالس، فالأنهار فقدت براءتها والجسور تهاوت والهضاب انتقمت وكأنها صبرت صبر الجمال التى تخزن فى جوفها الغضب.
أطالس البشر مختلفة تماماً، ولهذا يتعقبها أطباء النفس، وقد يدركون ما يجرى على السطح، ولكنهم يفشلون فى النزول إلى الآبار ويعالجون العواصف النفسية بالمهدئات، وفى أطالس العالم، الأميال هى وحدة القياس، وفى أطالس البشر ليس بالضرورة أن يكون أقرب الناس إليك هو القريب، فربما تفصلكما فراسخ، ولو كان يشاركك سريرك. جغرافيا البشر فيها محيطات ليس لها حدود، وفيها أنهار من العقد وعواصم من الحزن وبراكين من الألم نشطة وزلازل تثور بلا توقيت. إنه تكوين بشرى يمنحك القدرة على إخماد البراكين والسفر من عواصم الحزن والقفز فوق متاريس الاكتئابات فتتجنب صخور الصدام. إنك تعيش فى كنف ابتسامة وفى حضن فرح وتقيك طبياً شر الجلطات والسكتات خصوصاً عندما تشطب من قاموسك الوفاء والغدر.
وفى المرحلة الانتقالية التى نحياها فى أعقاب ثورة، تأخذ جغرافيا البشر منحنى آخر. فأنت إما ثائر أو لك شهيد أو من الفلول أو من المضادين للثورة أو من أصوات ميدان مصطفى محمود، وحتى الثوار أنفسهم (ائتلافات) ومختلفون على مبادئ وأشخاص. إن قبول (الآخر) حالة فيها استحالة خصوصاً إذا ظهر فى الأفق سماسرة الأديان. إن «الأطلس البشرى» فى هذه الفترة أخرج من الغابة الثعالب والذئاب والثعابين والخفافيش. ذلك أن الجغرافيا الحاكمة لهذه الفصيلة المفترسة من البشر تنبش مخالبها حقداً أو جحوداً أو فقراً أو مرارة، وربما كان دليل الأمان الذكى يبدأ من محاصرة المجتمعات العشوائية اجتماعياً ونقلهم على وش الدنيا. إن العشوائى فى جغرافيا المرحلة الانتقالية تسيطر عليه أنهار (العقد)، وبراكين (الغضب) وتفسرها الاعتداءات على رجال البوليس أياً كانت الرتب. الفئويون قنابل موقوتة فى القلب والصدر وصدقوا ما سمعوه من الشاشات عن المليارات المنهوبة العائدة. الأزمة الشمولية تكتم الصراخ وتعد ولا تفى وتذهب العدسات الرسمية فى زيارات محبوكة للبؤر لامتصاص الغضب، وظل الصراخ مختبئاً فى الصدور وانتظر اللحظة لكى يضرب عن الطعام أو يعتصم بالأيام والأسابيع أو يتظاهر سلمياً، فلما سقطت الدولة، صاروا يقطعون الطرق البرية والسكك الحديدية. إنها جغرافيا البشر المحروم وللدقة المجاور للسعداء الذين يلعبون الجولف وإخوتهم فى البشرية يلعب بهم.. جولف الفقر ومياه البرك. أطلس (المرحلة الانتقالية) الصعبة فيه الخوف بين الأشقاء والخوف من علاقات أسرية جر رجلها الكسب غير المشروع والخوف من علاقة نسب لواحد من سكان طرة المحبوسين على ذمة قضايا، والخوف من قيادات سابقة خرجت من مواقعها بهتافات غاضبة، ويفط معلقة على الجدران وآراء بطعم الطين على «فيس بوك».
نعم، فى خطوط الطول والعرض، فإن حجم ما جرى فى مصر مذهل منذ يناير (الاستشراقة). الأسئلة كثيرة وتمطر فوق الرؤوس كالسيول والإجابات قليلة وربما شاحبة، وسفينة الوطن تقترب من (خليج البسكاى) الذى يعرفه العالم بخليج المخاطر الحادة الشبيهة برياح التيفون الآسيوية أو طوفان الرمال المتحركة فى صحارى الرعب. إنها جغرافيا البشر فى جزيرة سريعة الإيقاع واللهاث والتقلبات والغد البعيد الآتى. بلد من زمن (بائد) وعصر (بائد) حتى ثوار يناير من عاشوا قبل ٢٥ يناير عاشوا ثلاثين عاماً فى زمن مبارك. لا أحد غير بائد سوی الأطفال الذين ولدتهم أمهاتهم فى الأيام التى تلت ولادة ثورة فى ميدان التحرير.
وفى جغرافيا النفس البشرية- للراصد المدقق- فقد تكشفت (الأنا) عند الشباب. أليس هذا الجيل هو الذى أزاح جبلاً من التراكمات وبسبب (الطاعة العمياء) لمطالب الثوار، شعر كل شاب نزل (الميدان الرمز)، أو لم ينزل، بأنه (يطلب) فقط.. فيطاع، وقد أحس الأب المصرى بهذه الموجة الطارئة من السلوك ورفض السلطة الأبوية، كذلك طفت على السطح حالة عدم تواصل مع الكلمة المطبوعة لأن (فيس بوك) أنجح خارطة طريق وقوض نظاماً كانت له أعمده. الجسارة فى الأسلوب طالما أنك تملك أن تقول للكبير (طظ)، فالصوت العالى موصل جيد للرغبات بحق أو بدون حق، والجدل العقيم المرهق حول أمور واضحة صار منهجاً.
وفى جغرافيا الذات أعترف أننا كنا عمياناً باقتدار، ربما كان كل واحد منا يتكئ على عكاز أمل، لكننا لم نتصور حجم (الاغتصاب) لمصر الأرض والثورة. إننى أستعجل الزمن لأرى الثورة تضخ فى عروق جسد هذا الوطن عملاً جاداً وبهجة غير مصنوعة و«تماثيل رخام ع الترعة». ما نراه الآن واقع مترد رغم تصريحات التفاؤل الاضطرارى. أستعجل الزمن لأرى (قيادات فكرية) للثوار بمثابة بوصلة للفكر والفعل.
فى أطلس الحياة أتساءل: هل لنهر النيل الذى يشق الوادى ذاكرة؟ لو كان كذلك لغير الحزن مجراه. فى جغرافيا هذا الزمن وتضاريسه وعلم طبقاته، أستعجل الزمن الذى نرى فيه الوزراء يخرجون (مكرمين) من الأبواب الرئيسية، لا (مذعورين) من الأبواب الخلفية. فى تاريخنا البعيد ثلاثة أهرامات خالية. لتتغير قشرة الزمن وتكون فى تاريخنا الحديث أهرامات ثلاثة: حرية وعدالة وديمقراطية.
[b]