لا أظن أن معضلة الإعلام المصري يمكن حلها بسهولة, أو التوصل إلي نتائج إيجابية وحاسمة في زمن قصير يقاس بالأسابيع أو الشهور.
وهي أيضا ليست مستحيلة الحل, إذا فهمناها علي الوجه الصحيح, باعتبار الوضع الراهن نتيجة لتراكمات طويلة ومزمنة, إذ يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: أن هذا الإعلام إعلام شمولي, بدءا بثورة يوليو1952 وانتهاء بثورة يناير.2011 والإعلام الشمولي رسالته الأولي والأخيرة خدمة النظام, والقيام بدوره من خلال ولائه التام للسلطة الحاكمة, المتركزة طيلة العهود الثلاثة التي عاشتها مصر في يد الحاكم الذي يتحكم في كل شيء. فهو إعلام شمولي لأنه إعلام نظام شمولي, مهما قامت منابر متعددة, أومجالس نيابية مختلفة, لأنها في جوهرها كيانات كرتونية هزيلة, الهدف منها تجميل الصورة فحسب, وإن كانت حقيقتها غير خافية علي أحد. وصحيح أن الناس تناسوا أو تغاضوا أو احتملوا سوءات هذا الإعلام الشمولي في ظل ظروف هيأت لهم أنهم يحققون حلمهم القومي, كما كان الحال في الحقبة الناصرية, أو أنهم يعيشون أفراح النصر وبدايات عصر الانفتاح في الحقبة الساداتية, وعندما جاءت الحقبة المباركية تعري وجه الواقع القبيح والبشع, لأنهم لم يجدوا وهم الحلم القومي ووجدوا ـ بديلا له ـ لصوصية عصر الانفتاح وقد بلغت ذروتها, وتنامي الفساد الذي أصبح فساد دولة أو دولة فساد, فكان الانفجار العظيم الذي أطاح بنظام هش, أعمدته مجموعة من الخونة واللصوص والكذبة والمنافقين. وظل الإعلام المصري حبيس هذه المشاهد, لا يملك أن يتجاوزها ولا أن يرتفع فوق سوءاتها, ولعب وزراء الإعلام أدوارهم طيلة هذا العصر بكل مهارة وتنطع, من أجل تهيئة الوطن لقارئ واحد, لا يقرأ عادة, ولمستمع واحد, لا يسمع إلا ما يريد, ومشاهد واحد يري صورته علي الشاشة الصغيرة والكاميرات تطارده في كل حركة والتفاتة, إمعانا في الولاء والخدمة والتقرب. فهذا الواحد هو الذي يملك كل شيء وبيده أن يغير كل شيء, وهم لا يريدون أن يتغيروا, ولا أن يفارقوا مقاعد سلطاتهم, وهكذا نعمت مصر بأطول فترة لحاكم في تاريخها الحديث وأطول فترة لوزير إعلام في تاريخها كله.
ثانيا: أن هناك ثلاثة أجيال علي الأقل ـ من العاملين الآن في ماسبيرو ـ تربوا علي التلقي وليس علي الاجتهاد أو التفكير. الخطط الإعلامية تنزل إليهم من أعلي, لم يفكروا فيها ولا سمح لهم بإبداء الرأي في صوابها أو عدم معقوليتها. هي بمثابة الوحي النازل من السماء, عليهم أن ينفذوا, وإذا كانوا رؤساء في مواقعهم فلابد من نقل الأمور هكذا إلي مرءوسيهم, وهكذا نشأت هذه الأجيال دون أن يطلب منها أن تفكر أو تبدع, أو تتقدم بخطط وأفكار بديلة, فنسيت قدرتها علي التفكير والتغيير والاعتراض, حتي وهم يواجهون أشياء لا يقبلها عقل, عندما يقال لهم علي سبيل المثال, نريد حملة إعلامية من أجل مشروع اتوشكيب باعتباره حضارة جديدة, وتأمل أيها القارئ عبارة حضارة جديدة, ولابد أنك ستسأل هل أصبح استصلاح الأرض الصحراوية واستزراعها وإقامة مجتمع سكاني حولها, يقال عنه حضارة جديدة؟ وهل الإعلامي الكبير الذي يطرح هذه التسمية يعرف معني كلمة احضارةب ويدرك كم حضارة مرت بها الإنسانية. لقد كانت طائرة الرئيس في زياراته لتوشكي تحشد دوما بالفنانين والمطربين ـ وبخاصة نجوم الكوميديا والفكاهة ـ لصحبته والحوار معه, ولم ينل إعلامي واحد ممن سينفذون هذه الحملة الإعلامية من أجل توشكي شرف المشاركة ورؤية الموقع الذي سوف يبشر بحضارته المقبلة؟
ثالثا: وكما كانت البلاد كلها في قبضة يد واحد, هي السلطة الحقيقية, وكل ما عداها أتباع وأنصار وخدم وذيول, من رئيس الوزراء ـ الذي هو كبير سكرتارية ـ حتي أصغر موظف, كذلك كان الحال في الإعلام. رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون, ورئيس مجلس الأمناء في الوقت نفسه, منفذ أمين لسياسات وزيره وتعليماته, لا يخرج عليها, ولا يحيد عنها قيد أنملة, وإلا وجد نفسه في العراء, ولا أذكر إلا حالة واحدة واجه فيها رئيس مجلس الأمناء وزيره واعترض علي سلوكه وقراراته, لأنه كان قادما من وزارة أخري تسيل فيها الأموال كالطوفان, وكان يريد إقامة صندوق خاص ـ ينفق منه الوزير علي أموره الخاصة ـ من أموال الاتحاد, وعندما تصاعد الخلاف واشتكي رئيس الاتحاد إلي رئاسة الجمهورية, وجه رئيس الديوان إلي أن يأخذ الأمر بهدوء ونعومة قائلا عبارته الشهيرة: العبوا سوا مع بعض!. وانتهي الأمر طبعا بخروج رئيس الاتحاد الذي اشتكي, ولم يستطع التأقلم مع رغبات الوزير الخارجة عن المألوف!
رابعا: قد لا يعرف كثيرون أن عديدا من البرامج التي يشاهدونها علي الشاشة الصغيرة ـ في التليفزيون وفي الفضائيات ـ هي من صنع معدين يتحكمون فيها وفي مسارها, عندما يختارون الموضوعات والضيوف معا, ولا يبقي للنجم الذي يقدم البرنامج أو النجمة إلا حفظ الاسكربت أو النص المكتوب وترديد ما فيه, بالطريقة التي تناسب مقدم البرنامج أو مقدمته. من هنا, فقد جاء زمن رؤساء التحرير للبرامج, وهيئات التحرير, وكتاب التقارير, ليصبح هو السمة الرئيسية للبرامج التي تركز عليها كل قناة. هؤلاء الذين يتحكمون في مادة البرنامج ومستواه واتجاهاته هم في العادة صحفيون لم يتحققوا في عملهم الصحفي بالقدر الذي يلبي طموحهم أو مدرسون أو مثقفون متفرغون. ويوما بعد يوم تصبح تربيطاتهم بمن ينتمون إليهم, وإلي شبكات مصالحهم هي الطريق لتلميع فلان, واستضافة فلانة, وتسليط الضوء علي موضوع كذا وتجاهل كذا, هؤلاء المعدون ـ بمستوياتهم المختلفة ثقافة وتكوينا وانتماء وخبرة ـ هم أباطرة البرامج التليفزيونية المتوجون دون أن يراهم أحد أو يحس بوجودهم أحد. والحديث موصول..
[b]