- سأدع كل هذا الضجيج من حولى جانباً، سأغمض عينى وأصم أذنى عن كل أخبار الأزمات والكوارث، ومعارك رجال المال والأعمال، وما يحدث فى ردهات المحاكم وصالات النيابات، سأتجاهل كل حوادث القتل والخطف والعنف التى تطاردنا صباح مساء و.. أحدثكم عن القمر فهل تأذنون لى؟؟
- العودة إلى الرومانسية الجميلة هى ما يعتبره كثيرون الجل لكل ما أصاب حياتنا من عنف وشرور.. فالعالم الآن بات متعطشاً لعصر الهدوء والشاعرية الذى انقضى منذ زمن. ـ وهناك بعض المؤشرات والدلائل على هذا التعطش، فالنجاح المذهل للأفلام الرومانسية القليلة التى تظهر على الشاشة بين مئات أفلام الرعب والعنف والأكشن، والأرقام الفلكية لإيرادات هذه الأفلام هى دعوة لاتخطئها العين إلى الرغبة فى الإكثار من هذه النوعيات فلتكن هى دعوتنا أيضاً لتهيئة مناخ جديد من الحب والسلام بعد أن أفرز العنف جيلاً من الشباب التائه الذى يرى فى الإجرام حلاً لمشاكله..
ـ نعلم أن جذور الحب فى الطفولة هى أساس الصحة النفسية والبدنية عند الكبار.. وفى عصور قديمة كان الرأى أن الطفل يولد أنانياً متوحشاً فيه ميل شديد إلى الهمجية والقسوة إذا لم ينظم ويهذب.. ولكن ثبت بالأدلة خطأ هذا الاعتقاد.. لأن العلم الحديث أثبت أن الطفل الوليد هو من أكثر المخلوقات تنظيماً وأنه يولد وبه حساسية مرهفة ودقيقة يستقبل بها كل المنبهات والتأثيرات التى تساهم فى نموه..
- وهو ـ أى الطفل الوليد ـ فى حاجة ماسة للحب فهو زاده خلال مشوار عمره كله.. فهو يتوقع أن يكون محبوباً، ويتصرف تلقائياً وفقاً لهذا التوقع.. فإذا خابت آماله فى الحب إذا أهملت تصبح تصرفاته همجية وقاسية ولايستطيع أن يعطى الحب فى كل سنين حياته.
- والسلوك العدوانى للطفل ليس إلا شعور بالإحباط فى الحب أو وسيلة لطلب الحب.. وبالتالى لايصح أن تقابل عدوان الطفل بعدوانية أخرى وعقاب بل يجب مواجهتها بالحب..
- والأطفال الذين لم يحصلوا على الحب الكافى فى طفولتهم يتحولون إلى أشخاص من الصعب عليهم أن يفهموا الحب.. يصبحون باردين لامبالين فى علاقاتهم الإنسانية.. يقفزون من علاقة حب إلى علاقة أخرى بسهولة ويعانون من حالة جوع عاطفى وينتهون إلى كراهية البشر جميعاً ويميلون إلى الحصول على القوة والسطوة ويصبون سخطهم على الناس جميعاً..
- والحياة برومانسية هى أحد مظاهر الحب الذى نغرسه فى قلوب أطفالنا.. وزمان كانت لدينا أفكار رومانسية ومشاعر رومانسية تاهت كلها مع قيم المادية والسباق الرهيب من أجل المكاسب المادية..
- زمان كان يشغلنا القمر وكانت له هيبة عظيمة حتى إنه كان معبوداً للكثيرين لما فيه من هدوء وسماحة وضوء مبهر.. فهو صديق يؤنس وصادق لايخلف وعده من الهلال إلى المحاق، ولاتتعطل دورته بمرور الأيام والسنين.. وهو حكيم يوحى للعشاق بالأفكار المطمئنة ويلهمهم الآراء العاقلة الصائبة.. وهو عالم يرقب الكائنات ويحيط بأسرارهم.. وهو مقدس لايصح أن يتطاول عليه أى متطاول.. وغير ذلك كثير.. وكلها صفات أضفيناها نحن العرب على القمر وتدل على معانٍ سامية فهى تصور القمر حامياً للبشر من المهالك..
- والآن.. ماذا تبقى لنا من القمر.. هل مازال هناك شعراء يتغنون به فى وصف وجوه حبيباتهم: لقد فقد القمر هيبته بعد أن صعد الإنسان إليه وشاهده عن قرب: كوكب مظلم ملىء بالجبال والحفر، وجه قبيح مصاب بالجدرى وما ضوؤه الجميل إلا خدعة كبرى إذ يستمده من الشمس وليس منه، والأكثر أن هذا الضوء لم يعد له أى معنى بعد أن سطعت أضواء المصابيح.. - ألانستطيع أن نعود فنعشق القمر من جديد ونرى فيه وجه الحب الجميل أم أننا سنظل لاهين عنه بضغوط الحياة اليومية ومشغولون فى الليل بأضواء الشاشات الصغيرة والكبيرة وماتنقله لنا الأقمار الصناعية..
- هذا هو الفرق.. زمان كان لدينا قمر واحد طبيعى نستمد منه كل المشاعر الجميلة..
- الآن.. لدينا عدة أقمار صناعية تنقل إلينا أخبار الدمار على كوكبنا المسكين..