لو أننا نَمْل..!!
يقظة فكر | ديسمبر 20، 2010 | التعليقات: 4
بقلم: سارة عبد الله
النَّمل حشرة اجتماعيَّة تعيش في مُستعمرات, كلّ حشرة في مملكة النَّمل تعلم جيدًا مهامّها وتقوم بها على أكمل وجه, مع مقدرتها أيضًا على القيام بمهام الآخرين في الحالات الحرجة كتعرّض المملكة لهجوم.
كنتُ أتمنَّى أن أكون نَمْلَة, وأن أعيش في مجتمع مشابِه لمجتمعه, كلّ فرد فيه يدرك وظائفه, ويقوم بها, ولا يعني ذلك التخصص في العلم والإدراك ولكن أقصد التخصّص في العمل.
فمعرفة الطَّبيبُ بالثّقافات المختلفة وإدراكه للواقع المحيط به سواء سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا يمكِّنه من فهم الواقع الذي يعيشه!
كنت أتمنَّى أن يهوى المدرّس تعليم طلابه قبل أن يكون هواه في ما في جيوب أولياء الأمور أو مرتّبه!
كنت أحلم بأن يسعى المهندس لتعمير هذا الوطن !
كنت أحلم أن أعيش في مجتمع يدرك كلّ شخص وظيفته ويسعى لأن يكون مبدعًا بها!
كنت أحلم بأن يكون الطالب طالبًا, والموظّف الحكومي موظفًا!
كنت أتمنَّى أن نكون مثل النَّمْل نعلم وظائفنا ونقوم بها, لكن وبكل أسف أجد أنني أعيش في مجتمع مشتت التفكير ينقص أفراده احترام تخصصاته. وزدنا على ذلك أنَّنا أعطينا مسمَّيات خاطئة لبعض التصرّفات, وأضرب لذلك أمثلة:
* اعتبرنا الشخص المتدين هو “ذلك الشخص الحافظ لبعض الأحاديث والتي ربَّما لم يكن مدركًا لأغلب معانيها”.
* سمَّينا المثقَّف مثقفًا, إن قرأ كتابًا ذو عنوان طويل أو تحدَّثَ ببعضِ المصطلحات غير المفهومة للعامَّة.
* أعطينا أحقيَّة الإفتاء لـ”أيّ شخصٍ ظهر في الفضائيَّات دونما السؤال عن رصيده العلمي”!
* أطلقنا لقب متفوّق على “كلّ طالب, حصل على مجموع عالي في الثانويَّة العامَّة, حتى وإن كان لم يفهم أي كلمه مما درس ,وكل تفوقه راجع لمقدرته على الحفظ”!
* سمَّينا المناضل مناضلاً, “إن خرج في مظاهرة أو اعترض علي سياسة الحكومة أو عارض قرارات مجلس الوزارة, حتى وان كان دافعه في كل ذلك هو المعارضة لمجرد المعارضة”!
* أطلقنا ألقابًا برَّاقة, وصفاتٍ رنَّانة على بعض الأشخاص لمجرَّد انبهارنا بكلماته, حتى وإن لم نرى أفعالاً توازي تلك الكلمات في بريقها.
* بتنا نُطلق الاتهامات جزافًا, فهذا جاهلٌ بأمورِ الدِّين لمجرَّد أنَّه غير ملتحي, وآخرٌ جاهلٌ بالسِّياسة لمجرد أنَّه لم يخرج للتظاهر, وذلك منحلٌّ كونه يستمع لأغنيَّة, وآخر منغلقٌ على ذاته كونه مقصِّرٌ لبنطاله.
اتّهامات, تصنيفات, أسماء سمَّينا بها الأشخاص أغلبها إنْ لم يكن كلّها خاطئ !! واعتمادًا على كلّ هذه التَّسميات الخاطئة بنينا صرحَ جهلٍ عال, وللأسف كان نتيجة كلّ ذلك أن تهنا جميعًا عمّا خلقنا من أجله.
باتَ من حقِّ الطّبيب أن يفتي طالما أنه أطلق لحيته أو قصَّرَ بنطاله!!, ومن حقّ الشيخ أن يُبدي رأيه في السياسة طالما أنَّه سمع نشرة الأخبار أو شاهد لقاءً صحفيًّا, كما بات من حقّ الطالب أن ينتقد سلوك علماء الدين لمجرَّد أنَّ الفتوى لا تأتي على هواه!, بتنا نُعيرُ آذاننا لكلّ صوت رنَّان حتى وإن كان خاويًا, ونصف صاحبه بالمثقف الواعي الساعي لتغيير حال بلده ولنهضة مجتمعه.
بتنا مجتمع أشبه بالمسخ.. الفرد يلبس عباءة الدين ويبدّلها بعباءة المعارضة إن اقتضى الأمر لينال الاحترام الاجتماعي, ثم يرتدي عباءة الانفتاح ليحصل على لقب متفهّم ومنفتح على الآخر, حتَّى وإن انسلخ من سمته الديني, المهم هو نظرة من حوله واحترامهم له.
ومع تغيّر العباءات حسب الحاجات والرغبات, ومع خلع كل عباءة وارتداء أخرى, يتيه الأفراد ومن ثم المجتمع فلا نكاد نعرف من هو المفتي من الداعية, ولا ندرك الطبيب من الدجَّال, ونتوه بين المصلح والمشاغب الساعي لخراب هذا البلد!!
من الرائع أن يقرأ وأن يفهم الطبيب والمهندس والطالب والموظف المسائل الدينيَّة, بل لربما كان الأمر واجبًا, ولكن لن يرتقي أي منهم لمستوى العالم بأمور الدين دارس العلوم الشرعية. فكما كان من واجب الطبيب كتابة الوصفات الطبيَّة كان على عالم الدين وصف الفتوى الشرعيَّة, فلم نسمع أبدًا عن شيخ وصف روشتة.. لذا ليترك الطبيب أمر الإفتاء لصاحبه, ويترك الشيخ أمر الطب لصاحبه.
جميل أن نكون مدركين للأمور السياسيَّة ساعين لإحداث نهضة شاملة ولكن لا يجوز بأيّ شكل أن نشكّك دونما دليل, أو أن نحكم في مسألة سياسيَّة على أساس عاطفي وحسب, لمجرّد أنَّ الآخر يخالف فكرنا في نقطة ما. وأغرب ما سمعت في هذا الصَّدَد أنَّ أحد الشيوخ اعتبر سياسة الرئيس التركي عبد الله جول سياسة فاشلة لأنه ردّ في أحد المقابلات على السؤال الآتي برد لم يرضي الشيخ:
“السؤال: لماذا ترتدي زوجتك الحجاب ؟”
فأجاب جول: “لأنَّ ذلك حريَّة شخصيَّة”.
لم يحترم الشيخ إجابة جول, واعتبر أنَّ الإجابة الواجبة هي: “لأنَّ الحجاب أمرٌ ربَّاني”!, وعلى هذا الأساس بنى الشيخ “رأيه السياسي” وبات يشرحه في الدرس الديني ويعلمه لطلابه!
جميلٌ أن يكون لنا هوايات, وأن نهتم بكلّ شيء, لأنَّ ذلك يُثري العقول ويزيد من عمق تفكيرنا, وكلَّما تنوَّعت اهتمامات المرء منَّا زادت قدرته على فهم الأمور المحيطة به, واتَّسع منظوره للأمور, واستطاع أن يتفهَّم فكر الآخر.
إلا أنَّ تلك الهوايات والاهتمامات لا يجب بأيّ حال أن تطغى على وظائفنا الأساسيَّة, فلا يجوز أن يكون عدد الساعات التي يظلّ الطبيب فيها معتكفًا لقراءة كتاب سياسيّ أو دينيّ أكبر من عدد الساعات التي يقرأ فيها كتابًا طبِّيًّا, مع ملاحظة عدم إغفال القراءة بشكلٍ تام لأنَّ ذلك يحوّل الشخص لمجرد مسخ يشبه الآلات, وكثيرًا ما نرى أشباه الآلات في مجتمعنا, فالشخص منهم عالمٌ بأمور الطبّ مثلاً جاهلٌ كلّ الجهل بأمور الحياة مما ينعكس على طريقة معاملته لمرضاه ولكل من حوله.
التخصّص أمرٌ مهم, واحترامه أهم
فلو أنَّ أطبَّاءنا كانوا على درجة علميَّة عاليَة لما رأينا قنوات فضائيَّة تعالج السرطان بالأعشاب!
ولو أنَّ شيوخنا لزموا منزلتهم الراقية واحترموا مكانتهم وعلموا أنَّهم أصحاب فتوى لا نجوم تلفاز, لكنَّا الآن في سلْم من فتاوى كثيرة, كفتوى إرضاع الكبير!
ولو أنَّ دعاتنا أدركوا أنَّهم دعاة وحسب, لفتح الله عليهم بقدرة على توجيه الناس ودعوتهم لدين الله عزَّ وجلّ وأنَّ علمهم لا يخوّلهم إطلاق الفتاوى جزافًا.. ويكفي أنْ نعلم أنَّ الإمام مالك كان يفكّر في بعض الأحيان عامًا كاملاً قبل أن ينطق بفتواه.
لو أنَّ السياسي ترك خلاف معاوية – رضي الله عنه – وعلي – كرَّم الله وجهه – جانبًا والتفت إلى الخلافات الداخليَّة والخارجيَّة السياسيَّة لكان أوقع وأفضل لمجتمعنا, فكما قال الإمام مالك: “فتنة نجَّى الله أيدينا منها فلمَ نذهب لها بألسنتنا!”.
ولو أنَّ الطلاب اهتموا بدراستهم مع عدم إغفال واجباتهم تجاه مجتمعهم ودونما تغليب أحد الأمرين على حساب الآخر لكان وضع مجتمعنا أفضل بكثير.
ولو أنَّنا أدركنا مهامّنا وسعينا لتحقيقها مع عدم إغفال التنوّع الثقافي والعلمي لشابهنا مجتمع النَّمل في تنظيمه والتزامه, ولبتنا مملكة قويَّة مثل مملكته.. قويَّة بأفرادها وليس بمملكتها فحسب..[b]