في وسط الطريق
مصادفة سعيدة أن يلتقي الإنسان ببريق من الماضي ، في وقت لبس ثوب النسيان ، وضاعت الأحاسيس الطيبة ، وتلاشت المشاعر الجياشة ، لتصبح صورة من الماضي .وهاهي تشق حجب الصمت ، وتقتلع جذور الفراق ، وتزرع رياحين الحب من جديد ، وتتنشق عبير الورد من أحضان الربيع .
في أمسية كنت أحاور نفسي ، فشدني إلى الوراء ، ذكرى مودة ، مخضبة بقطرات الندى ، وقد خالجني شعور منعش ، أحيا أمامي لوحة ماضية ، وشيد في طريقي جسراً يربط الأيام الخوالي بحاضري ، لأجد أمامي تلك المنية التي مضى عليها زمن . تشرب من كأسي ، وتأكل من زادي ، وتشاركني وحدتي . كنت أحسب أنها حلم ذكرى لكن نسمات عليلة داعبت أجفاني ، فصحوت من غفوتي ، وإذا بها حقيقة تضمني إلى صدرها الدافئ بكل عطف ولين ، وتجذبني إليها وكأن السنين الطويلة لم تمضي ، ولم تمر .
ما جدوى الكلام في هذا اللقاء … لقاء روحين مضى على فراقهما زمن ، وقد جمعها الآن صدفة ليست مستحيلة . فيما مضى كان لقاء الأعين ، وبعض الهمسات الناعمة ، والنشوى الدافئة ، والآن لقاء الروح للروح من خلال نظرات الأمل المتجدد .
هل تعلم أنها صدفة رائعة ؟ … منذ سنين مضت كان ذلك اللقاء العفوي … اثنان لم يتعارفا إلا لدقائق معدودة … سارا في طريق لا يشوبه شائب ، ولا يتخلله أي امتعاض .بكل كبرياء التقيا ، وقد جمعهما سؤال … إلى أين ؟… ولم يأتِ الجواب من أي منهما . وتابعا المسير دون هدف إلى أن دخلا روضة صغيرة ، سمتها الهدوء ، وراحة النفس ظلها ، وانتقيا خميلة وارفة الظلال ليجلسا تحتها ، ويرتشفان القهوة معاً على صوت دافئ للمطربة نجاة الصغيرة ، تشدو بأغنيتها ( في وسط الطريق وقفنا وسلمنا ودعنا يا قلبي )
ساعتان من الزمن وعيونهما في لقاء واحد … دون كلام … دون همس …ما أجمل هذا اللقاء !. الوقت يمر سريعاً ، ليبدأ بعدها فراق من جديد ، وكأنهما على سفر طويل ، لا لقاء بعده . واجتذبتهما النظرات الثاقبة التي قالت كل شيء ، دون أن تهمس الشفاه بأي كلمة . والتقت الأكف في وداع حزين ، وكأنهما عاشا دهراً في لقاءٍ طويل .
لم يخطر ببال أحدهما أن يسأل الآخر عن وجهته ، أو هويته ، وسارا كلاً في طريق …
صحوت من هذا الحلم الجميل نعد ساعات من ذلك الفراق ، لأسأل … من هي ؟… من تكون ؟… لماذا التقينا ؟… وا حسرتاه على لقاءٍ لم يدم إلا هنيهة …إنه لقاء لم يكن سوى ومضة في عمر الزمن ، وكأنني أضعت شيئاً ثميناً على قلبي .
ترى ؟… هل هي الأخرى تتساءل كما أتساءل الآن ؟ … إن شيئاً في داخلي ينبؤني أنها تختزن بعضاً من المشاعر التي أحس بها .
يا الله !… ما أجمل ذاك اللقاء .
صدفة … ويالها من صدفة جميلة … ثم أردد كلمات الأغنية التي جمعتنا . وما هي إلا لحظات حتى تلاشى الحلم الواقع مع ضجيج الشارع الطويل .
* * *
سنوات مضت ، وأخذ النسيان طريقه إلى ذاتنا ، ولم يخطر ببالنا أننا سوف نعود … سوف نلتقي …ويا هول اللقاء !…
مَن ؟!… إنها أمامي … بكل شيء … بجسدها ، وروحها ، وعقلها ، وقلبها … لكن لم أفطن لها في الوهلة الأولى ، وكأنني لم ألتقِ بها من قبل أبداً … إنها في العقد الرابع ، ولم يتغير شيئاً من ملامحها ، وشكلها ، وإنما زادت نضوجاً وحيوية .
بريق عيونها ، وصوتها الدافئ يشدو بكلمات الأغنية المحببة لكلانا … وتقول بعدها ، أتذكر الخميلة … أتذكر اللقاء والوداع . لم أنسَ تلك الدقائق التي جمعت روحينا ، وها نحن من جديد ، تجمعنا صدفة أخرى في لقاء سعيد …
يا الله !… أيجود القدر علينا بلقاءٍ بات منسياً ، وذكرى حلم غابر .
إن سلوى النسيان تكون ممتعة أحياناً ، لكن نبضات الذكرى الحية في وجداننا تزيد من شجونها ، وتشحنها بروح الأمل المرتقب .
كان لقاء روحين تزودا بزاد المعرفة …
كان وداع روحين لهما من أمل اللقاء أحلى عبير … وهاهي الأيام تمضي وتمر ، ليعود اللقاء من جديد ، في واحة العمل المنبسط على صفحات الحياة … دون كلام … راحت أكفنا تعانق بعضها بكل حرارة ، ودون أن ندري اتحدت أنفاسنا ، وعدنا إلى الوراء …
في خلوتي … في سلوتي كنت معي ، تهمس في أذني أحلى الكلام ، وأعذب الألحان … خذني إليك ، وسر معي يا رفيق الخميلة ، نحو روضة الأمان[b]