حتى تبتسم الدموع
19/09/2005
فادي الصقر- 22 عامًا - المغرب
كنتُ في غرفتِي بينَ زوايَا وحدتِي، أتأملُ السحبَ من بلور نافدةِ غرفتِي، فهذِهِ هِيَ عادتِي أنْ أتطلعَ إلى السماءِ حينَ تغلبُ همومِي على أحلامِي، وتختلط أحزانِي بأشجانِي.. ناظرًا مصيرَ تلكَ الغيماتِ التِّي لا تحملُ المطرَ، لكن بداخِلِهَا آمالُ البشرِ..
عجيبٌ كيفَ تتبدلُ الغيمةُ منْ شكلٍ إلى آخرَ، لتتغيرَ إلى مَا هوَ أسمَى من الأشكال وأبهَى، كأنهَا خطوطٌ تداخلت وألوان اختلطت في مخيلة رسام لتصير لوحة متمازجة خطوطها، متناسقة ألوانها، فبدت لِي تلكَ اللحظةُ كأنهَا أبديةٌ..
غريبٌ هذَا الشعورُ الذِي ينتابنِي كلمَا تأملتُ السماءَ هامسًا ببعضَ الأسئلةِ، محتفظًا بالباقِي فِي أعماقِي، لأنَّ هناكَ سأجدُ لهَا المخبأَ بجانبِ جراحِي وأحلامِي.
وَمَا زلتُ علَى هذا الحال حتى لمحتُ طيفاً يقتربُ منِّي مخترقاً الأفق، والسحب خلفه بدت كأنها أجنحة يلوح بها، فأمعنتُ النظرَ فإذا بي أرى الحكمة تبتسم وهي قادمة نحوي، فدخلتْ غرفتِي عبرَ النافذةِ كما تدخلُ وريقة أول زهور الربيع بيت شاعر لتملأ غرفته عطراً وتغمر نفسَه شعراً، فتضوّعَ في غرفتِي عطرُ الياسمينِ ممزوجا بعبيرِ مسكِ الليلِ، ثم قالتْ وهي تنتصبُ ماثلةً أمامِي واضعةً يدها على كتفِي: ها أنا ذا جئتُ مخترقةً جدرانَ الأبديةِ لأجيبكَ عن أسئلتكَ، فأجبتها متلعثماً: لكني لم أسألكِ أبداً!
فقالتْ: إنكَ لمْ تقلها بشفاه البشر التي تذم أشعة الشمس نهاراً، وتمدحها وهي معكوسة على صفحة القمر ليلاً، لكنكَ بُحتَ بها بذلكَ العصفورِ الذي ينشد في صدرك، فما إن سمعتُ إنشادهُ لبيتُ النداءَ متسلقةً الجبالَ، ممتطيةً العواصفَ، مرافقةً الجداولَ حتى وصلتُ إلى هنا.
فارتعشَ قلبِي بداخلِي وقدْ اختلطتِ الأمورُ بذهنِي ولمْ أعدْ أدرِي ما أقولُ، ثم زادتْ قائلةً: هلمَّ بنا نذهبُ فهناكَ ما يجبُ أنْ تراهُ، ولكنْ ليسَ بعيونِ البشرِ؛ لأنها عمياءُ لا ترَى غيرَ المتلألئ من الأمور، ثم وضعتْ يدها على خدي، فأحسستُ بحريةٍ لم أحسها منْ قبلُ وأنا أطيرُ فوقَ رأسها كفراشةٍ صغيرةٍ وحولنا أسرابُ الحمامِ ترفرف بأجنحتِها.. فطِرتُ والحكمةُ جنباً إلى جنبٍ فوقَ المدينةِ التي بدتْ كأخطبوطٍ عائمٍ فوقَ بحرٍ منَ السكون، موجُه دخان المصانع، وشاطئه رقعة صغيرة بين المقابر، حتَّى وصلنَا إلى نهرٍ عظيم انعكستْ عليهِ صورَةُ القمرِ والنجومِ فبدا كامتدادٍ للفضاءِ أو كبوابةٍ يدخلُ منها أهلُ الأرضِ ليسلمُوا سلامَ الشوقِ على أهلِ السماء، فتقدمتِ الحكمةُ مني وقالتْ وعلى عينيها بدتْ سيماءُ الحنوِّ والعطفِ: هوَ ذَا نهرُ الحياةِ فاشربْ، ولكنْ لا تنسَ أنهُ ليسَ ككلِّ الأنهار، ولا يمكنكَ الشربُ منهُ كمَا يرتوى من كلِّ الأنهارِ، وتذكرْ أنهُ ينبعُ منْ عمقِ الإنسانِ وليسَ منْ خارجهِ.
فقلتُ وأنَا لا أدرِي مَا يجبُ عليَّ قولهُ: أتقصدينَ أنَّ الإنسانَ يرتوِي منْ قلبهِِ، وليسَ عليهِ أنْ ينخدعَ بلمعانِ المياهِ رغمَ صفائِهَا وعذوبتِهَا مَا دامتْ ككلِّ المياهِ تنبعُ منَ الخارجِ. ولكنْ ما تراه يكون دورُ الفكر إذا كان الإنسان يرتوي من قلبه؟
فأجابتْ وهيَ تبتسمُ: أجلْ إنَّ القلبَ البشريَّ هو الذي يجسد العمقَ بكلِّ مَا يحملُهُ العمقُ منْ علمٍ بالطهرِ وإجلالٍ للجمال بكل ما يضمه الجمال من نقاءِ وتمردٍ على منْ يهدمون الأرواح (ليبنونَ) صروحَ الأجسادِ من أنقاضها. والفكرُ إنمَا هوَ أجنحةٌ تحملُ الروحَ إلى العلوِّ بكلٍّ ما فيهِ
منْ إدراكٍ لموحياتِ السعي وراء أسرار الكونِِ والتأمل في المرئيات لسبر غور المخفيات من الأمور، والتطلع دوما لمعرفة الحقيقة المكتوبة في سفر الوجود، فبقيتُ في مكانِي ساكِتاً وقتاً منَ الزمنِ لأننِي أدركتُ ساعتها أنَّ السكوتَ أقصرُ الطرقِ لمعرفةِ الحقيقةِ الكامنَةِ وراءَ الوجودِ. ثم قلتُ متلهفاً: وماذا عنْ هذا الحزنِ الذي يتربصُ بي ولا يكفُّ حتى يرى دموعِي تستعطفُهُ ليرحلَ عنْ صدري.
فقالتْ بصوتٍ كنسيمِ الليلِ رقةً: عندمَا نزرعُ بسمةً في شفاهٍ ، تزهرُ وروداً في الربيعِ وتشرقُ شمسُ الأملِ في سماءِ طموحهَا، لتنيرَ قمرَ فرحتها فوق بحرِ حياتهَا، فتصيرُ الحياةُ أنشودة حبٍّ سرمديةٍ تتغنَّى بهَا الملائكةُ قبيلَ الفجرِ وقطراتُ الندَى تلمعُ في مآقي الوجودِ. وحينَ يأتِي الصيفُ مبديا ملامحَ الجدِّ تذبلُ أوراقهَا وتنقلبُ شمسُهَا جرماً مظلماً، فيغدُو بحرُهَا مستنقعاً يتصادمُ فيهِ القنوطُ بالحسرَةِ وتصيرُ في الخريفِ ذكرَى تحنُّ لهَا النفسُ وينقبضُ منهَا القلبُ. فتتلاشَى في الشتاءِ لتضاهِي ظلاًّ ظهرَ عندَ طلوعِ الشمس واختفىَ ساعةَ غروبِهَا، لكننَا حينَ نغرسُ دمعةً في عيونٍ أبردتْهَا ثلوجُ الشتاءِ وامتلأتْ بالكآبةِ وكحِّلتْ بالوحدةِ، فإنهَا ترَى الربيعَ بعيونٍ صافيةٍ من الأنانيةِ نقيةٍ بالمحبةِ خاليةٍ منَ اليأسِ مليئةٍ بالأملِ، فتحيَى الصيفَ شوقاً إلى
أشعةِ الشمسِ التي تلونُ بشرتَهَا بألوَانِ العزمِ التي لا تزول، وتصبحُ إبانَ الخريفِ سنديانةً تعلمَتْ حبَّ كلِّ الفصول، وأدركتْ أنَّ طعمَ الدموعَ الحامضِ إنمَا وُجِدَ لتتلذذ الروحُ بنكهَةِ البسمةِ الكوثريةِ التي تجعلهَا تقبلُ المسراتِ ولكنْ بغيرِ الشفاهِ وتصافحُ السعادة الكامنةَ في الوجودِ لكنْ بغيرِ الأيادِي.
ثم أطبقتُ أجفانيِ وهي تضعُ يدهَا على خدي، ولمَّا فتحتهَا وجدتُنِي في غرفتِي، فنظرتُ حولِي فلمْ أجدْ سوَى خيالاتٍ تتلاشَى مبتعدةً نحوَ الأفق.. وصدَى كلماتٍ تتردد في أعماقِي هامسةً: اسعَ دوما وراء الحقيقة، وكن لي مُحبًّا، واربط دائما ظلمات العمقِ بأنوارِ العلوِّ حتى تبتسم الدموع في قلبك..
النقد والتعليق
يقول الناقد والسيناريست عماد مطاوع:
ببداية مسجوعة تلهث خلف الجرس الموسيقي يلج بنا الكاتب فادي الصقر لنص "حتى تبتسم الدموع"، وهو نص قصصي يدور في فلك تلك الأعمال التي تتطلع للبحث عن المطلق وعن أسرارنا الداخلية وربطها بحركة الكون ومحاولة الوقوف على حقيقة هذه الحياة المضطربة والمتلاطمة الأمواج.
إن هذا النص ملغز بالفعل فهو يتأرجح ما بين القصة القصيرة والمقال الفكري الذي يجنح نحو الفلسفة، فنحن أمام بطل راوٍ يتخيل أن الحكم قد تجسدت له وصحبته في جولة حتى تريه ما استغلق عليه فنجده يقول على لسان الحكمة: "هلم بنا نذهب؛ فهناك ما يجب أن تراه، ولكن ليس بعيون البشر لأنها عمياء لا ترى غير المتلألئ من الأمور".
ثم يتخذ النص منعطفًا مغايرًا، أو لنقل إنه يتحول إلى مستوى آخر، حيث يغلب عليه الحوار ما بين البطل والحكمة، ورغم جمود هذا الحوار فإن صفاء لغة الكاتب وشفافيتها تجعلنا نتابع النص حتى نهايته.
ولقد اعتمد الكاتب في هذا النص على تيمة البناء التقليدي الذي استهله بمقدمة (فرشة) كانت مسجوعة ومختلفة تماما عن بقية النص، وأرى ألا جدوى مطلقا لوجودها؛ لأنها أضعف جزء في العمل، كما أنها تعطى انطباعا سيئا عن النص، ثم نسج الكاتب حدوته، وإن جاءت غير مكتملة بين البطل والحكمة ثم يقودنا في مناقشة بين الطرفين، رغم أن صوت البطل /الراوي كان غالبا، بحيث تجده وكأنما يحدث نفسه، فليس هناك اختلاف مطلقا بين مستوى حواره وما يطرحه، وبين مستوى حوار الحكمة وما تطرحه، وهذا يحيلنا إلى هنة أخرى للكاتب؛ بحيث يجعل الشخصين يقولان ما يود هو قوله، لكن بأسلوب واحد وبقاموس لغوي واحد، دون أن يراعي التنوع الذي يحدد الاختلاف بين الشخصيات.
كما يعد واحدا من أساسيات بناء الشخصيات داخل العمل الفني، كما أنها تولد اللحظات القصصية التي تثري العمل وتزيد من حيويته، خاصة أن الكاتب قد أنهى عمله بجملة جيدة تعد مفتاحا لعالم فكري حياتي جيد، فنجده يقول على لسان الحكمة: "اسع دوما وراء الحقيقة وكن لي محبا، واربط دائما ظلمات العمق بأنوار العلو حتى تبتسم الدموع في قلبك".
وهي جملة تحيلنا إلى أحاديث المتصوفة والباحثين في جوانيات النفس البشرية بغية الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي يسعى الإنسان إلى الوصول إليها دوما.
لكن في عالم القصة هناك دروب أخرى على الكاتب أن يسير فيها حتى يتمكن من بناء حالة فنية خالصة، ولا ضير مطلقا أن يستفيد من شتى المشارب، ولكن شريطة أن يتم ذلك في إطار فني، مع الإدراك الكامل لطبيعة الوسيط الأدبي الذي يود استخدامه كي تصل مشاعره وأفكاره إلى الناس.
والحق أن الكاتب فادي الصقر يمتلك تلك المقدرة العالية على بناء نص جيد يجعل المتلقي في حالة انجذاب تام له، وعليه أن يحدد أي الوسائط الأدبية أنسب له وأقرب إلى قلمه، وعندئذ يركز فيها، ويلقي جل طاقته حتى يخرج لنا المزيد والمزيد من الإبداعات إلى العديد من الأفكار والأحلام والآلام والحكمة أيضا، شريطة أن يكون ذلك في إطار فني، وأرى أن الكاتب يمتلك المقدرة العالية على فعل ذلك.[b]