لأول
الآخر
الظاهر
الباطن
قال الله تعالى : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) هذه الأسماء الأربعة المباركة قد
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه : ( اللهم أنت
الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ،
وأنت الباطن فليس دونك شئ ) .. الخ . ففسر كل اسم بمعناه العظيم ونفى عنه ما
يضاده وينافيه . فتدبر هذه المعاني الجليلة الدالة على تفرد الرب العظيم بالكمال المطلق
والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله : ( الأول والآخر ) والمكانية في (الظاهر
والباطن) .فالأول يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن ، ويوجب للعبد
أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية ، إذ السبب والمسبب منه تعالى ..
والآخر يدل على أنه هو الغاية ، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها ن ورغبتها
، ورهبتها ، وجميع مطالبها ، والظاهر يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شئ عند
عظمته من ذوات وصفات على علوه ، والباطن يدل على إطاعته على السرائر ، والضمائر
، والخبايا ، والخفايا ، ودقائق الأشياء ، كما يدل على كمال قربه ودنوه . ولا يتنافى
الظاهر والباطن لأن الله ليس كمثله شئ في كل النعوت .
العلي
الأعلى
المتعال
قال الله تعالى ( ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) وقال تعالى ( سبح اسم ربك
الأعلى ) وقال تعالى ( عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) وذلك دل على أن جميع
معاني العلو ثابتة لله من كل وجه ، فله علو الذات ، فإنه فوق المخلوقات ، وعلى
العرض استوى أي علا وارتفع ، وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها فلا يماثله صفة
مخلوق ، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته ، قال
تعالى : ( ولا يحيطون به علماً ) . وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شئ في كل نعوته ، وله
علو القهر ، فإنه الواحد القهار الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلهم ، فنواصيهم بيده ،
وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع ، وما لم يشأ لم يكن ، فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما
لم يشأه الله لم يقدروا ، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه ، وذلك
لكمال اقتداره ، ونفوذ مشيئته ، وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه .
الكبير
وهو سبحانه وتعالى الموصوف بصفات المجد ، والكبرياء ، والعظمة ، والجلال ، الذي
هو أكبر من كل شئ ، وأعظم من كل شئ ، وأجل وأعلى . وله التعظيم والإجلال ، في
قلوب أوليائه وأصفيائه . قد ملئت قلوبهم من تعظيمه ، وإجلاله ، والخضوع له ، والتذلل
لكبريائه ، قال الله تعالى ( ذلك بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا
فالحكم لله العلي الكبير ) .
السميع
قال الله تعالى : ( وكان الله سميعاً بصيراً ) . وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر
فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة ، والباطنة فالسميع الذي أحاط
سمعه بجميع المسموعات ، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها
سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد ، لا تختلط عليه الأصوات ، ولا تخفى عليه جميع
اللغات ،والقريب منها والبعيد والسر والعلانية عنده سواء ( سواء منكم من أسر القول
ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) ، ( وقد سمع الله قول التي
تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) . قالت
عائشة رضي الله عنها : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة تشتكي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة ، وإنه ليخفى علي بعض
كلامها ، فأنزل الله : ( لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) . وسمعه نوعان :
أحدهما : سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية ، وإحاطته التامة بها .
الثاني : سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم ، ومنـــه قوله
تعالى : ( إن ربي لسميع الدعاء ) . وقول المصلي (سمع اله لمن حمده) أي استجاب .
البصير
الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات ، حتى أخفى ما يكون
فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وجميع
أعضائها الباطنية والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة ، ويرى سريان المياه
في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها ،
ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك . فسبحان من تحيرت العقول
في عظمته ، وسعة متعلقات صفاته ، وكمال عظمته ، ولطفه ، وخبرته بالغيب ،
والشهادة ، والحاضر والغائب ، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان .
قال تعالى : (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم) ( يعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) . ( والله على كل شئ شهيد ) ، أي مطلع ومحيط علمه
وبصره وسمعه بجميع الكائنات .
العليم القدير
قال الله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . ( إن الله بكل شئ
عليم ) . فهو العليم المحيط علمه بكل شئ : بالواجبات ، والممتنعات ، والممكنات ، فيعلم
تعالى نفسه الكريمة ، ونعوته المقدسة ، وأوصافه العظيمة ، وهي الواجبات التي لا
يمكن إلا وجودها ، ويعلم الممتنعات حال امتناعها ، ويعلم ما يترتب على وجودها لو
وجدت ، كما قال تعالى : ( لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا) وقال تعالى : ( ما أتخذ
الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ) .
فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها ، وإخباره بما ينشأ عنها لو وجدت
على وجه الفرض والتقدير ، ويعلم تعالى الممكنات ، وهي التي يجوز وجودها وعدمها
ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده ، فهو العليم الذي أحاط علمه
بالعالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان ويعلم الغيب والشهادة ،
والظواهــر والبواطــن ، والجلي والخفي ، قال الله تعالى : ( إن الله بكل شئ عليم )
والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها
وإحصاؤها ، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر ، وأنه لا يغفل ولا ينسى ، وأن علوم الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسيت
إلى علم الله اضمحلت وتلاشت ، كما أن قدرهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة
إليها بوجه من الوجوه ، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون ، وأقدرهم على ما لم
يكونوا عليه قادرين . وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي ، وما فيه من
المخلوقات ذواتها ، وأوصافها ، وأفعالها ، وجميع أمورها ، فهو يعلم ما كان وما
يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، ويعلم
أحوالالمكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يميتهم وبعد ما يحييهم ، قد أحاط علمه بأعمالهم
كلها خيرها وشرها وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار. والخلاصة أن الله
تعالى هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والأسرار والإعلان ، وبالواجبات ،
والمستحيلات ، والممكنات ، وبالعالم العلوي ، والسفلي ، وبالماضي ، والحاضر ،
والمستقبل ، فلا يخفى عليه شئ من الأشياء.
العزيز القدير القادر المقتدر القوي المتين
هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة ، فهو تعالى كامل القوة ، عظيم القدرة ، شامل
العزة ( إن العزة لله جميعاً ) وقال تعالى : ( إن ربك هو القوي العزيز ) فمعاني العزة
الثلاثة كلها كاملة لله العظيم . 1ـ عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوى المتين ، وهي
وصفة العظيم الذي لا تنسب إليه قوة للمخلوقات وإن عظمت ، قال تعالى ( إن الله هو
الرزاق ذو القوة المتين ) وقال ( والله قدير والله غفور رحيم ) وقال عز وجل ( قل هو
القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً
ويذيق بعضكم بأس بعض ) وقال تعالى ( وكان الله على كل شئ مقتدراً) وقال عز وجل
( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . 2ـ وعزة الامتناع فإنه
هو الغني بذاته ، فلا يحتاج إلى أحد ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه ، ولا نفعه فينفعونه
، بل هو الضار النافع المعطي المانع . 3ـ وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها
مقهورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته ، فجميع نواصي المخلوقات بيده ، لا يتحرك
منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم
يكن ، ولا حول ولا قوة إلا به . فمن قوته واقتداره أنه خلق السماوات والأرض وما
بينهما في ستة أيام ، وأنه خلق الخلق ثم يميتهــم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون ( ما خلقكم
ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) . ( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) . ومن
آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة ، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل
زوج بهيج ، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذبين والكفار الظالمين من أنواع
العقوبات وحلول المثلات ، وأنه لم يغن عنهم كيدهم ومكرهم ولا أموالهم ولا جنودهم ولا
حصونهم من عذاب الله من شئ لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب ، وخصوصاً
في هذه الأوقات ، فإن هذه القوة الهائلة والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة
هذه الأمم هي من أقدار الله لهم وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمونه ، فمن آيات الله أن
قواهم وقدرهم ومخترعاتهم لم تغن عنهم شيئاً في صد ما أصابهم من النكبات
والعقوبات المهلكة ، مع بذل جدهم واجتهادهم في توقي ذلك ، ولكن أمر الله غالب
وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي . ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما أنه
كما أنه هو الخالق للعباد فهو خالق أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم ، وهي أيضاً
أفعالهم ، فهي تضاف إلى الله خلقاً وتقديراً وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة على الحقيقة
، ولا منافاة بين الأمرين ، فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم ، وخالق السبب التام خالق
للمسبب ، قال الله : ( والله خلقكم وما تعملون ) . ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من
نصره أولياءه ، على قلة عددهم على أعدائهم الذي فاقوهم بكثرة العدد والعدة ، قال
الله تعالى : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . ومن آثار قدرته ورحمته ما
يحدثه لأهل النار وأهل الجنة من أنواع العقاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع
الذي لا ينقطع ولا يتناهى . فبقدرته أوجد الموجودات ، وبقدرته دبرها ، وبقدرته سواها
وأحكمها ، وبقدرته يحيى ويميت ، ويبعث العباد للجزاء ، ويجازي المحسن بإحسانه
والمسيء بإساءته ، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئاً
قال له (كن فيكون) قال تعالى ( أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل
شئ قدير ) .
الغني
قال الله تعالى : ( وأنه هو الغني وأقنى) . وقال الله تعالى : ( يا أيها الناس أنتم
الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) فهو تعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق
من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه ، ولا
يمكن أن يكون إلا غنياً فإن غناه من لوازم ذاته ، كما لا يكون إلا محسناً ، جواداً ، براً
رحيماً كريماً ، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها ، فهي مفتقرة
إليه في إيجادها ، وفي بقائها ، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه ، ومن سعة غناه
أن خزائن السماوات والأرض والرحمة بيده ، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع
الأوقات ، وأن يده سخاء الليل والنهار ، وخيره على الخلق مدرار . ومن كمال غناه
وكرمه أنه يأمر عباده بدعائه ، ويعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم ،
ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه ، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق
وأخرهم في صعيد واحد فسالوه ، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص
من ملكه مثقال ذرة ، ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من
النعيم واللذات المتتابعات ، والخيرات المتواصلات ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ،
ولا خطر على قلب بشر. ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة ، ولا ولداً ، ولا شريكاً في
الملك ، ولا ولياً من الذل ، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه ، المغني لجميع
مخلوقاته . والخلاصة أن الله الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه وهو
الغني جميع خلقه ، غنى عاماً ، والغني لخواص خلقه ، بما أفاض على قلوبهم ، من
المعارف الربانية ، والحقائق الإيمانية .
الحكيم
قال الله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . هو تعالى (الحكيم)
الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحكم بين المخلوقات ، فالحكيم هو واسع العلم
والإطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها ، واسع الحمد ، تام القدرة ، عزيز الرحمة فهو
الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره ، فلا يتوجه
إليه سؤال ، ولا يقدح في حكمته مقال. وحكمته نوعان : أحدهما : الحكمة في خلقه ،
فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق ، وكان غايته والمقصود به الحق ، خلق
المخلوقات كلها بأحسن نظام ، ورتبها أكمل ترتيب ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق
به . بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته
وهيئته ، فلا يرى أحد في خلقه خللاً ، ولا نقصاً ، ولا فطوراً ، فلو اجتمعت عقول الخلق
من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من
الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا ، وأنى لهم القدرة على شئ من ذلك وحسب العقلاء
الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه ، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن
والإتقان . وهذا أمر معلوم قطعاً بما يعلم من عظمته وكمال صفاته وتتبع حكمه في
الخلق والأمر ، وقد تحدى عباده وأمرهم أن ينظروا ويكرروا النظر والـتأمل هل يجدون
في خلقه خللاً أو نقصاً ، وأنه لا بد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شئ
من مخلوقاته. النوع الثاني : الحكمة في شرعه وأمره ، فإنه تعالى شرع الشرائع ،
وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدونه ، فأي حكمة أجل من هذا ، وأي
فضل وكرم أعظم من هذا ، فإن معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له ، واخلاص
العمل له وحده لا شريك له ، واخلاص العمل له وحمده ، وشكره والثناء عليه أفضل
العطايا منه لعباده على الإطلاق ، وأجل الفضائل لمن يمن الله عليه بها . وأكمل سعادة
وسرور للقلوب والأرواح ، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية
والنعيم الدائم ، فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل
الخيرات ، وأكمل اللذات ، ولأجلها خلقت الخليقة وحق الجزاء وخلقت الجنة والنار ، لكانت
كافية شافية . هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير فأخباره تملأ القلوب علماً ،
ويقيناً، وإيماناً ، وعقائد صحيحة ، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها ، وتثمر كل
خلق جميل وعمل صالح وهدى ورشد . وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة
والصلاح والإصلاح للدين والدنيا ، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ، ولا
ينهي إلا عما مضرته خالصة أو راجحة . ومن حكمه الشرع الإسلامي أنه كما أنه هو
الغاية لصلاح القلوب ، والأخلاق ،والأعمال ، والاستقامة على الصراط المستقيم ، فهو
الغاية لصلاح الدنيا ، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل ، فإن أمة محمد لما كانوا
قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه ، كانت أحوالهم في
غاية الاستقامة والصلاح ، ولما انحرفوا عنه وتركوا كثيراً من هداه ولم يسترشدوا
بتعاليمه العالية ، انحرفت دنياهم كما أنحرف دينهم . وكذلك نظر إلى الأمم الأخرى التي
بلغت في القسوة ، والحضارة ، والمدنية مبلغاً هائلاً ، ولكن لما كانت خالية من روح
الدين ورحمته وعدله ، كان ضررها أعظم من نفعها ، وشرها اكبر من خيرها ، وعجز
علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها ، ولن يقدروا على ذلك
ما داموا على حالتهم . ولهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه وصدق ما جاء به ، لكونه محكماً
كاملاً لا يحصل إلا به. وبالجملة فالحكيم متعلقاته المخلوقات والشرائع ، وكلها في غاية
الأحكام ، فهو الحكيم في أحكامه القدرية ، وأحكامه الشرعية ، وأحكامه الجزائية ،
والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع أن القدر متعلق بما أوجده وكونه وقدره ، وأنه
ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه . والعبد المربوب لا
يخلو منهما أو من أحدهما ، فمن فعل منهم ما يحبه الله ويرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان
، ومن فعل ما يضاد ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري ، فإن ما فعله واقع بقضاء الله
وقدره ولم يوجد في الحكم الشرعي لكونه ترك ما يحبه الله ويرضاه . فالخير والشر
والطاعات ، والمعاصي كلها متعلقة وتابعة للحكم القدري ، وما يحبه الله منها هو تابع
الحكم الشرعي ومتعلقه والله أعلم .
العفو الغفور الغفار
قال الله تعالى : ( إن الله لعفو غفور) الذي لم يزل ، ولا يزال بالعفو معروفاً ، وبالغفران
والصفح عن عباده ، موصوفاً . كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته ، كما هو مضطر إلى
رحمته وكرمه . وقد وعد بالمغفرة والعفو ، لمن أتى بأسبابها ، قال تعالى : ( وإني
لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) . والعفو هو الذي له العفو الشامل الذي
وسع ما يصدر من عباده من الذنوب ، ولا سيما إذا أتوا بما يسبب العفو عنهم من
الاستغفار ، والتوبة ، والإيمان ، والأعمال الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة ، والإيمان ،
والأعمال الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ، وهو عفو
يحب العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه : من
السعي في مرضاته ، والإحسان إلى خلقه ، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد
على نفسه ثم تاب إليه ورجع غفر له جميع جرمه صغيره وكبيره ، وأنه جعل الإسلام
يحب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها . قال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هــو الغفور الرحيم ) وفي
الحديث (إن الله يقول) : ( يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا
تشرك بي شيئاً لآتينك بقرابها مغفرة ) . وقال تعالى : ( إن ربك واسع المغفرة ) . وقد
فتح الله عز وجل الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة ، والاستغفار ، والإيمان ، والعمل الصالح
، والإحسان إلى عباد الله ، والعفو عنهم ، وقوة الطمع في فضل الله ، وحسن الظن
بالله وغير ذلك مما جعله الله مقرباً لمغفرته .
التواب
قال الله تعالى : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن اله
هو التواب الرحيم ) . (التواب) الذي لم يزل يتوب على التائبين ، ويغفر ذنوب المنيبين .
فكل من تاب إلى الله توبة نصوحاً ، تاب الله عليه . فهو التائب على التائبين : أولاً
بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه وهو التائب عليهم بعد توبتهم ، قبولاً لها ، وعفواً
عن خطاياهم . وعلى هذا تكون توبته على عبده نوعان : أحدهما : يوقع في قلب عبده
التوبة إليه والإنابة إليه ، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي ، والندم
على فعلها ، والعزم على أن لا يعود إليها . واستبدالها بعمل صالح . والثاني : توبته
على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها ، فإن التوبة النصوح تجب ما قبلها .
الرقيب
المطلع على ما اكنته الصدور ، القائم على كل نفس بما كسبت . قال تعالى : ( إن الله
كان عليكم رقيباً ) والرقيب هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات وأجراها ، على أحسن
نظام وأكمل تدبير .
الشهيد
أي : المطلع على جميع الأشياء ، سمع جميع الأصوات ، خفيها وجليها . وأبصر جميع
الموجودات ، دقيقها وجليلها ، صغيرها وكبيرها ، وأحاط علمه بكل شئ ، الذي شهد
لعباده ، وعلى عبادته بما علموه . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى (
الرقيب) و(الشهيد) مترادفان ، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات ، وبصره
بالمبصرات ، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية ، وهو الرقيب على ما دار في
الخواطر ، وما تحركت به اللواحظ ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان ، قال
تعالى ( إن الله كان عليكم رقيباً) ( والله على كل شئ شهيد) ولهذا كانت المراقبة التي
هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله بأسمه الرقيب الشهيد ، فمتى علم العبد أن
حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها ، واستحضر هذا العلم في كل أحواله ،
أوجب له ذلك حراسة باطنه عن كل فكر وهاجس يبغضه الله وحفظ ظاهره عن كل قول
أو فعل يسخط الله ، وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإن
الله يراه . فإذا كان الله رقيباً على دقائق الخفيات ، مطلعاً على السرائر والنيات ، كان
من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليات . وهي الأفعال التي تفعل بالأركان أي
الجوارح .
الحفيظ
قال الله تعالى : ( إن ربي على كل شئ حفيظ ) (للحفيظ ) معنيان : أحدهما : أنه قد
حفظ على عباده ما عملوه من خير وشر وطاعة ومعصية ، فإن علمه محيط بجميع
أعمالهم ظاهرها وباطنها ، وق كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، ووكل بالعباد ملائكة
كراماً كاتبين ويعلمون ما تفعلون ، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله
بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي
في أيدي الملائكة ، وعلمه بمقاديرها ، وكمالها ، ونقصها ، ومقادير جزائها في الثواب
والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله وعدله . والمعنى الثاني : من معنيي (الحفيظ ) أنه
تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون ، وحفظه لخلقه نوعان عام وخاص . فالعام :
حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيها ويحفظ بنيتها ، وتمشي إلى هدايته وإلى
مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها : ( أعطي كل شئ خلقه ثم هدى ) .
أي هدى كل مخلوق إلى ما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته ، كالهداية للمأكل ،
والشرب والمنكح ، والسعي في أسباب ذلك ، وكدفعه عنهم أصناف المكاره والمضار
وهذا يشترك في البر والفاجر بل الحيوانات وغيرها ، فهو الذي يحفظ السماوات والأرض
أن تزولا ، ويحفظ الخلائق بنعمه ، وقد وكل بالآدمي حفظه من الملائكة الكرام يحفظونه
من أمر الله ، أي يدفعون عنه كل ما يضره مما هو بصدد أمر الله ، ، أي يدفعون عنه
كل ما يضره مما هو بصدد أن يضره لولا حفظ الله . والنوع الثاني : حفظه الخاص لأوليائه
سوى ما تقدم ، يحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه والفتن والشهوات
، فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية ، ويحفظهم من أعدائهم من الجن
والإنس ، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم ، قال الله تعالى : ( إن الله يدافع عن
الذين آمنوا ) وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم ، فعلى حسب ما
عند العبد من الإيـــمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه ، وفي الحديث : ( أحفظ الله
يحفظك ) أي أحفظ أوامره بالامتثال ، ونواهيه بالاجتناب ، وحدوده بعدم تعديها ،
يحفظك في نفسك ودينك ومالك وولدك ، وفي جميع ما أتاك الله من فضله .
اللطيف
قال الله تعالى ( الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ) وقال تعالى ( لا
تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) . اللطيف من أسمائه الحسنى ،
وهو الذي يتلطف بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه ، ويلطف بعبده في الأمور
الخارجية عنه ، فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر . وهذا من آثار علمه
وكرمه ورحمته ، فلهذا كان معنى اللطيف نوعين : 1ـ أنه الخبير الذي أحاط علمه
بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور ، وما لطف ودق
من كل شئ . 2ـ النوع الثاني لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه ،
ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، ويجري
عليه اصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه والطريق إلى سعادته ،
كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله ، وكما ذكر الله عن يوسف عليه
السلام وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدره عليه من تلك الأحوال التي
حصل له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة ، وكما امتحن أوليائه بما
يكرهونه لينيلهم ما يحبون . فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام ، ولا تتصوره
الأوهام ، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية ، أو رياسة ، أو
سبب في الأسباب المحبوبة ، فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمة به لئلا تضره في
دينه ، فيظل العبد حزيناً من جهله وعدم معرفته بربه ، ولو علم ما ذخر له في الغيب
وأريد إصلاحه فيه لحمد الله وشكره على ذلك ، فإن الله بعباده رؤوف رحيم لطيف
بأوليائه ، وفي الدعاء المأثور ( اللهم ما رزقتني مما أحب فأجعله قوة لي فيما تحب ،
وما زويت عني مما أحب فأجعله فراغاً لي فيما تحب )
القريب
قال الله تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن
ربي قريب مجيب ) . ومن أسمائه (القريب) ، وقربه نوعان : 1ـ قرب عام وهو إحاطة علمه
بجميع الأشياء ، وهو اقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وهو بمعنى المعية العامة . 2ـ
وقرب خاص بالداعين والعابدين المحبين ، وهو قرب يقتضي المحبة ، والنصرة ، والتأييد
في الحركات والسكنات ، والإجابة للداعين ، والقبول والإثابة للعابدين ، قال تعالى : (
وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . وإذا فهم القرب بهذا
المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من
جوده تعالى فوق عرشه فسبحان من هو على في دنوه قريب في علوه .[b]