.المثقف.. والموسوعة.. والفن
أن ينشغل كاتب بعمل واحد نصف عمره فهذه قصة. وأن يتصدى العمل لما هو غير مسبوق فى ثقافتنا العربية.. نصبح إزاء قصة أخري. تشهدُ بعض تفاصيلها زوابع يستوجبها إقدام المبادرة. وتستدعى كلُ فصولها دهشةً وإعجابًا وتقديرًا بجهد فذ وراء عملٍ يبقى الأول من نوعه فى المكتبة العربية.
هذا الكتاب.. الموسوعة، أخذ من صاحبه أربعين عامًا من الزمان.. والجهد والبحث والعرق. ليخرج عملاً فريدًا. يحمل عنوانًا لا يقدر عليه ربما غير صاحب الكتاب والجهد، وهذه النوعية من الثقافة: «العين تسمع والأذن تري».
أكثر من ثلاثين جزءًا / كتابًا تضمه تلك الموسوعة حتى الآن. أولها كان عن الفن فى مصر القديمة. وآخرها يصدر قريبًا عن «دار الشروق» فى ثلاثة أجزاء تتناول الفنون الآسيوية (هندية وصينية ويابانية).
صاحب تلك الموسوعة المثقف السوربونى (الثمانيني) الذى ارتبط اسمه بالثقافة منذ كان وزيرًا لها فى تلك الأيام الجميلة التى لا تتكرر (1958 ـ 1962) ثم (1966 ـ 1970): د. ثروت عكاشه؛ أحد رواد حركة التنوير الثقافى فى عالمنا العربي. خريج كلية «أركان الحرب» الذى حصل على الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون 1960. والذى يشهد له تاريخ الثقافة إنجازه مشروع إنقاذ آثار النوبة ومعبد أبوسمبل ومعبد فيلة فضلاً عن إنشاء معاهد السينما والمسرح والباليه والكونسرفتوار، وإقامة دار الكتب والوثائق القومية وقصور الثقافة وفريقى الأوبرا والباليه قبل أن يتم اختياره نائبًا لرئيس اللجنة الدولية لانقاذ مدينة فينسيا وتراثها (1969 ـ 1978).
يعرف الكافة أن المشكلة الأولى التى تعترض المثقفين بعامة، والمتعطشين إلى الثقافة بخاصة هى «كيفية قراءة العمل الفني» سواء كان رقصة باليه أو لوحة فنية أو معزوفة موسيقية أو تمثالاً، فإن المتلقى عادةً يستقبل العمل بمشاعره المجردة وبتذوقه التلقائى والفطرى محتكمًا إلى مزاجه الخاص فيحكم له أو عليه دون الرجوع إلى المقاييس التى استقرت فى وجدان الإنسان وثبتت عبر الزمن.
هنا تأتى قيمة موسوعة ثروت عكاشه الفنية. والتى كان جزؤها الخاص بالفن العراقى القديم (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1974) عونًا لـ«وجهـات نظــر» عندمــا احتجنا فى العدد الماضى صـورًا لمقتنيـات متحف بغداد الذى تعرض للنهب بعد الاحتلال الأمريكي.
كان الفنان حسين بيكار يقول إن تذوق العمل الفنى ظل مقصورًا على ما يحتويه العمل من موضوعات ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالحياة العامة أو الخاصة، وكيفية تناول الفنان وسرده لهذه الموضوعات.. ولذلك كان التقييم محصورًا فى الجانب الأدبى أو المعنوى للعمل، وليس فيما وراء قشرته الظاهرية من عناصر تقنية وفنية وجمالية، وهى الأساسيات التى تمنحه قيمته الرفيعة وتجعله يتصدر نظائره من المنجزات الأخري.
إن كل ما يعرفه الجمهور مثلاً عن رائعة ليوناردو دافنشى الخالدة «الجيوكاندا» هو ابتسامتها الساحرة وأناملها البضة، ونظرتها الحالمة التى تلاحق الرائى أينما اتجه، أما ما وراء هذه الظواهر من قيم ومضامين فنية وتشكيلية فهذا مالا يدركه إلا صفوة المتخصصين أو النقاد. وإذا كانت هذه الجزئية الموضوعية فى الماضــى تجــذب المتلقـى إلى العمل الفنى وتطوى مشاعره فى تلافيـف نشـوة عاطفيـة غامـرة لا شـأن لها بجـوهر الفن وجمالياته، فإن ما طرأ على الساحة الإبداعية فى السنوات الأخيرة من تطورات فكرية قد باعد بين الجمهور وبين الفن وألقى به فى دوامة من الطلاسم التخصصية التى تفوق إدراكه، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الفن والجمهور وزيادة الأمية الفنية والثقافية بين عامة الناس.
وهناك فرقٌ بين التذوق الدارج وبين الوعى الناضج. فالمتلقى العادى يستقبل العمل الفنى منقادًا بحاسة فطرية غير مثقفة تسلمه إلى حالة انطباعية من القبول أو الرفض دون أن يدرى لماذا. أما المتلقى الواعى الذى لديه خلفية ثقافية عن الفن الذى يواجهه فإن استمتاعه بالعمل يكون مضاعفًا. ولا عجب أن نرى أغلب الحاضرين فى العروض الموسيقية يمسكون بالنص الموسيقى المكتوب ويتابعون العزف والأداء والقيادة لحظة بلحظة، ويستمتعون بكل حركة أو جملة استمتاعًا مضاعفـًا. فهم مستمعون ونقاد فى الوقت نفسه. وهذا هو الفرق بين التذوق والوعى المثقف.