أنا سيدة تجاوزت الستين من عمري.. نشأت في أسرة متدينة لأب من كبار علماء الأزهر الشريف, وأم ربة منزل كرست حياتها لبيتها وأولادها.. وتربينا علي مكارم الأخلاق وعزة النفس, وعشنا دفء الحب والحنان والمودة والرحمة.
<="" div="" border="0">
ومضت بنا الحياة هادئة ونحن راضون دائما بما قسمه الله لنا, ثم تزوجت وانتقلت إلي إحدي محافظات الصعيد, كما تزوجت شقيقتي ـ محور رسالتي إليك ـ من رجل فاضل أنجبت منه بنتين وولدين تفوقوا جميعا في كلياتهم, وبعد تخرج البنتين لفتتا نظر الشباب بجمالهما وأخلاقهما, فتقدم لهما الكثيرون, وزوجتهما الأسرة لمن رأتهما أكثر أدبا وأخلاقا الواحدة تلو الأخري, ثم تخرج الابن الأكبر الذي يليهما في كلية الزراعة, وحصل علي دبلوم الدراسات العليا, وبدأ في إعداد الماجستير وعمل بجهة مهمة, وكثيرا ما حدثني عن آماله وتطلعاته, ووجهه يفيض دائما بالبشر والسرور.. وتخرج بعده الشقيق الأصغر في كلية مرموقة بتقدير ممتاز وأصبح معيدا ثم تدرج في السلك الجامعي بسرعة حتي أصبح أستاذا.. واستقرت حياتهم ولم يعكر صفوها شيء لعدة سنوات, ثم مرض زوج أختي مرضا قصيرا رحل بعده عن الحياة, ولم تتحمل أختي الصدمة فانزوت في ركن بالمنزل, وصار الصمت هو ملاذها علي غير عادتها, وطالت فترة انعزالها عمن حولها, ولم نفلح في أن نعيدها إلي سيرتها الأولي, فإذا سألناها عن شيء لا تتذكره, وأصبحت تنظر إلينا باندهاش ثم تتمتم بكلمات غير مفهومة, وأخذها ابنها الأكبر إلي أكثر من طبيب, وكانت الصدمة أنها أصيبت بالزهايمر, وحذرنا كل المعالجين لها من خطورة تحركها وحيدة في المنزل, فقد تؤذي نفسها بآلة حادة, أو قد تشعل النيران بطريق الخطأ, أو تخرج إلي مكان غير معلوم.. إلي غير ذلك من التصرفات اللاإرادية.. وهذا ما حدث بالفعل في أحد الأيام حيث كان ابنها الأكبر في عمله واتصل به الجيران وأخبروه بأن والدته خرجت بمفردها, ولم تفلح جهودهم في إقناعها بالعودة إلي المنزل, فعاد مسرعا وظل يجوب الشوارع والدموع تنساب من عينيه خوفا من أن يكون قد أصابها مكروه, وحزنا علي ما وصلت إليه أحوالها بعد أن كانت تتميز بالحكمة ورجاحة العقل.
وجمع إخوته وناقشهم في الأمر, وتحدث أخوه الأصغر الأستاذ بالجامعة قائلا إنه تلقي عقد عمل في إحدي الدول العربية بمرتب كبير, وأنه سيرسل مبلغا كل شهر لرعاية والدته, وكذلك فعلت أخته الكبري التي سافرت مع زوجها أيضا إلي الخارج بعقد عمل لا بأس به.. وشرحت أخته الصغري ظروفها القاسية حيث أصيب زوجها بعدة أمراض في وقت واحد, وأصبح قعيد الفراش وهو موظف بسيط يوفر قوت أولاده بالكاد, وبقيت المشكلة الكبري من يخدم أمهم ويراعيها إذا انصرف كل منهم إلي حاله.. وهنا قرر الابن الأكبر أن يستقيل من عمله ويتفرغ لرعاية والدته, فشكره إخوته علي هذه التضحية الكبري بمستقبله وأكد له شقيقه الأصغر أنه سيسعي مع أخته الكبري لإقامة مشروع صغير له يدر عليه دخلا يعوضه عن دخل الوظيفة.. وهنا قاطعهم قائلا بأنه مهما فعل فلن يوفي أمه مثقال ذرة من عطائها الوفير, فانخرط الجميع في البكاء وتعاهدوا علي أن يظلوا يدا واحدة معتصمين بحبل الله.
ولم تمض أيام حتي تزوج أخوه من إحدي بنات معارفنا, وسافر إلي الخارج, وبدأ هو مهمته مع والدته, وصار كل شيء بالنسبة لها حيث يلازمها ليل نهار, يعد لها الطعام ويذهب بها إلي الطبيب, ويحاول أن ينعش ذاكرتها ببعض الأحداث والذكريات الجميلة أيام جده العالم الكبير.
وحرصت علي زيارتها كلما تيسرت لي الظروف, ولمست عن قرب الجهود المضنية التي يبذلها من أجلها والعبء الكبير الذي يتحمله راضيا من غير شكوي أو أنين دون أن يساعده أحد في مهمته الجليلة, فلقد تولي غسل الملابس, وطهي الطعام, وترتيب زيارات الطبيب.. إلي غير ذلك من لوازم الحياة اليومية.. وفي لقائنا معه في الإجازة الصيفية فاتحناه في الزواج فرد علينا متسائلا: ومن هي التي تقبلني بظروفي, وتساعدني في رعاية أمي بنفس راضية, فاستعرضنا بنات الجيران والأهل ووجدناها, وهي ممن قال الله عز وجل عنهم ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ورتبنا لها لقاء معه شرح فيه كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياته وظروف والدته, فرحبت بلا تردد, وأكدت له أن حماتها ستجد ابنة ثالثة لها, وبالفعل كانت لها أكثر من ابنة, بل ولا أبالغ إذا قلت إنها كانت حسنة الدنيا لها من الله عز وجل, فلقد رعت أختي عن طيب خاطر, وظلت تتناوب معه ورديات الليل والنهار, وتجلس دائما بالقرب منها حتي إذا شعرت بأنها تريد شيئا, أو شكت من ألم ما, تهب من فراشها لتجيب لها طلبها في الحال.
ووالله لا أبالغ إذا قلت إن أيا منهما لم ينم أكثر من أربع ساعات يوميا, ولم يقضيا شهر عسل مثل كل العرسان, أو يخرجا في نزهة ككل الشباب, وقدما لها هذا العطاء بلا ضجر ولا تأفف, بل إنه ظل حبيس المنزل لا يغادره إلا لإحضار علاج لها أو شراء متطلبات المنزل.. والمدهش حقا هو ما تتمتع به زوجته من روح جميلة, فلقد عاملت أختي كأنها طفلة بكل بشاشة وحنان وصبر يفوق طاقة البشر وكانت تضرب لها الطعام في الخلاط, وتسقيه لها بيديها لأنها لم تكن تستطيع المضغ.
وذات يوم جاءه هاتف في منتصف الليل يخبره بأن شقيقه مات في حادث سيارة بالبلد الذي يعمل به, تاركا زوجته وطفله الذي لم يتجاوز ثلاث سنوات يواجهان معترك الحياة.. المكالمة كانت قصيرة, لدرجة أنه لم يتبين من الذي اتصل به, فسقط علي الأرض مغشيا عليه, وظل يردد بصوت عال لا إله إلا الله, وتحول المنزل إلي مأتم.. ولم تعرف أختي ماذا حدث, وإن ظلت تبكي لبكاء من حولها في مشهد حزين أعجز عن وصفه.
وبرحيل الشقيق الأصغر انقطع المورد الرئيسي لدخل الأسرة المسكينة, وتحملت الشقيقة الكبري المهمة كاملة, وشجعها زوجها علي استكمال رسالتها النبيلة.. وقبل أن يفيق ابن أختي من صدمة موت شقيقه, شكت أخته الكبري من بعض الآلام, فأخذها بصحبة زوجها إلي مستشفي شهير حيث أجريت لها فحوص شاملة كشفت عن إصابتها بالمرض اللعين الذي نهش جسدها دون أن تدري حتي تمكن منها, ولم تفلح جلسات العلاج الكيماوي في الحد من انتشاره, وضعفت عضلة القلب, وأصيبت بجلطة في ساقيها, وبرغم كل هذه الآلام تمسكت بعملها لمساعدة والدتها.
وقبل شهرين فقط ذبلت أختي تماما ولم تستطع مجرد النهوض من الفراش, وظللنا حولها ثلاثة أيام كاملة, إلي أن لفظت أنفاسها الأخيرة, ورحلت عن الحياة بعد خمسة عشر عاما من المرض العضال, وخيم السكون علي المنزل.
ورحت أستعيد ذكريات السنين, وأتأمل حالة أسرة أختي, وما انتهت إليه, وحال ابنها الأكبر الذي ضحي بعمره ومستقبله من أجل السهر علي راحتها, فلقد بلغ من العمر سبعة وأربعين عاما, وهو الآن بلا عمل ولا دخل, وتأبي نفسه الشكوي لأحد, ومازال قويا جسورا, وكلما تذكرت شريط رحلته الحزينة يبكي قلبي قبل عيني.. ووالله لو استطعت أن أقطع جسدي, وأعطيه له قطعة بعد أخري لما ترددت, فهو مثال نادر للابن البار بأمه وأهله وعشيرته.
وإنني أتعجب حقا من الأبناء الجاحدين العاقين آباءهم وأمهاتهم, ولا أدري كيف تطاوعهم قلوبهم فيبتعدون عن أهلهم بالسنين حتي إذا أفاقوا من غيهم يجدونهم قد فارقوا الحياة, كما حدث لكاتب رسالة اللحظة القاسية.. وأقول لهؤلاء: إن جزاء البر بالوالدين عند الله عظيم, وما قدمه ابن أختي من تضحية لمساندة أمه في محنتها سوف يكون في ميزان حسناته, وأسأله سبحانه وتعالي أن يكتب له الراحة والطمأنينة وهدوء البال, وأن يثيبه من فضله وكرمه, فيهنأ بزوجته المطيعة الطيبة, وأن يوفقه إلي عمل مناسب يعوضه عن رحلة الشقاء والتعب التي خاضها غير مبال بأي شيء إلا راحة أمه, وأن يرزقه وزوجته ذرية صالحة تؤنس وحدتهما وتكون لهما عونا علي متاعب الحياة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
{{.. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: لقد أدرك ابن شقيقتك منذ البداية أن الأم هي كل شيء في الوجود إن لم تكن الوجود نفسه, ولذلك اختارها علي كل إغراءات الدنيا, فاستقال من عمله, وكرس لها حياته, واشترط علي زوجته أن تشاركه حمل همها, وعمل بمقولة جان جاك روسو لو كان العالم كله في كفة.. وأمي في كفة.. لاخترت أمي.
وحينما اتخذ قراره المصيري بالاستقالة من عمله لهذا الهدف النبيل كان مطمئنا لحسن العاقبة, واثقا من طيب المصير, راضيا بقضاء الله, وهو يعلم يقينا أنه عز وجل يوجهه إلي حيث يرضي, فالخضوع للأم وإرضاؤها هو السبيل إلي حياة تملؤها القناعة ويحوطها الاطمئنان.
وهو عندما فعل ذلك كان علي يقين من أن السعادة, ليست في الثراء, وإنما في القلب برضاه وإشراقه وأنسه, وأدرك أن التواصل مع الله هو أعظم ما يملكه العبد فينال مغفرته ورضوانه قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
فطوبي له بعد صبره علي ما تعرض له من ابتلاءات, وطوبي أيضا لأخته الوفية النقية التي مازالت تسهم في رعاية أسرة أخيها وهي في أشد الحاجة إلي العلاج باهظ التكاليف, وما كانوا ليصلوا إلي هذه الدرجة من العطاء والحب إلا بالتربية الصالحة في البيت الكبير العامر بالإيمان.. وليعلموا جميعا أن الله مع الذين اتقوا فيما هم فيه من البلاء وأنه سوف يشفيهم من الداء ويحفظهم في البأساء والضراء.. ولا تيأسوا من روح الله فإن فرجه قريب وكرمه واسع, وعلي الله فتوكلوا وفوضوا أمركم إليه وارضوا بكفايته واطمئنوا لرعايته.
إن الإنسان يا سيدتي, مهما بلغت حدة مشكلته أو بلواه, قوي بمعية الله والاعتصام به والتوكل عليه, بعد الأخذ بالأسباب, ومن هنا فإن علي ابن أختك بعد رحلة الكفاح الرائعة التي كان أهلا لها أن ينظر إلي تباشير الصباح الذي سيأتيه قريبا فتفتح له باب الأمل والتفاؤل, وتدفعه إلي مواصلة حياته من جديد, فمثله لا يشقي له جانب, وسوف يجد من يقدره وينزله منزلته الجدير بها في عمل مناسب يواصل به عطاءه مستشرفا غدا جديدا كله خير.
أسأل الله أن يديم عليكم هذا الحب الفياض, وأن يكتب لكم التوفيق والسداد.. وهو وحده المستعان.[b]