بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها، والحق يلتمس في أي موضع ومن أي مخلوق مهما كان ضعيفًا، ولا عجب إذن أن نتعلم الحق على الذي أجراه الله على لسان أو أفعال أي مخلوق، ولقد ذخر القرآن بالحديث عن الحيوانات والحشرات، ونجد في تلك الآيات عبرة وعظة نلتمسها لدى تلك المخلوقات الضعيفة، ويكفي أن الله تعالى قد أنزل ذكرها في كتابه المحكم الخالي من الحشو والكلام غير المفيد.
وإن من تلك الآيات التي تتحدث عن الحشرات ولنا فيها عبرة وعظة، قصة النملة مع سيدنا سليمان عليه السلام، وحري بنا أن نقف عند تلك القصة، ولا يستنكف أحدنا أن يقول بعدها: علمتني نملة.
بين يدي القصة:
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون)، فقد جمع الله لنبيه سليمان جيشًا عظيمًا يتألف من الجن والإنس والطير، فلا ريب أنه جيش كبير، فتخيل جيشًا بهذا العظم يمشي يطوي الأرض، لا ريب أنه سوف يحدث صوتًا يحول بين سليمان وبين الاستماع إلى الأصوات الدقيقة.
ولكن سليمان قد التقطت أذناه صوتًا، ليس بصوت إنس أو جن، وإنما صوت نملة، نملة؟ نعم نملة ألم يعلمه الله تعالى لغة الحيوانات؟ قال الله تعالى على لسان سليمان: (وورث سليمان داود وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير).
فماذا قالت النملة إذ سمعها سليمان: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون).
كلمات معدودة نطقت بها النملة، لكنها تحمل لنا دروسًا عظيمة، تستحق أن يقول المرء بعد استخراج الدرر الكامنة في حديثها: علمتني نملة، فماذا علمتني النملة؟
الدرس الأول: فرد قد يحيي أمة
لقد علمتني النملة أن على المرء ألا يستقل جهده الفردي، فتلك النملة المعلمة واجهت أزمة عظيمة تجتاح أمتها بأسرها، خطر يحيق بأمتها قد يستأصلها، فلم تبال النملة بأنها فرد واحد،ولم تسوغ لنفسها القعود بدعوى أنها فرد لن تغني شيئًا، فنادت قومها: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون).
وكم نحتاج إلى تعميق ذلك المنطق فينا، إن مشكلة كبيرة تستولي على شبابنا، مشكلة التهوين من الجهود الفردية، مع أن المستقرئ لآيات القرآن والسنة والسيرة والتراجم، يخلص بحقيقة أن الفرد الواحد قد يفعل الكثير والكثير، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فردًا حين بدأ دعوته المباركة التي سرت في العالمين؟
ألم يكن من قبله إبراهيم أبو الأنبياء فردًا حين دعا قومه إلى عبادة الله وحده؟
ألم يكن مصعب بن عمير فردًا حين وطد وحده دولة الإسلام في المدينة، فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتشرت في ربوعها دعوة الحق؟
ألم يكن أصحاب الاختراعات أفرادًا، ألم يكن ابن النفيس فردًا حين اكتشف الدورة الدموية؟ ألم يكن توماس ايدسون فردًا حين اخترع للعالم بأسره اختراعات عظيمة منها المصباح الكهربائي؟
ألم يكن "هيوستن" المحامي الأمريكي فردًا حين ذهب وحده إلى الولاية المكسيكية التي أرادت أمريكا ضمها، فجاءهم بعد سنوات بمفتاح المدينة؟
فالجهد الفردي لا غنى عنه للأمة، ونحتاج أكثر ما نحتاج إليه في المرحلة الراهنة بعد الثورة المباركة، حيث إعادة بناء الأمة من جديد، تحتاج فيها الأمة إلى جهد كل فرد فينا، فلا يستقل المرء جهده الفردي، وهكذا علمتني النملة.
الدرس الثاني: تقديم المصلحة العامة على الشخصية
إن هذه النملة قد عرضت نفسها للخطر، حيث أن أقدام البشر وخطواتها تمثل بالنسبة للنمل عشرات الأمتار، وهذا يعرضها حتمًا للخطر، خطر أن تسحقها أقدام الإنس أو الوحوش، لقد كان من المفترض في هذا الموقف أن تلوذ النملة بالفرار لا تلوي على شيء، ولكنها قد وقفت تنادي على أمة النمل تحاول إنقاذها، مقدمة في ذلك مصلحة أمتها على مصلحتها الشخصية.
إن الأمة الإسلامية متعطشة لهذه الروح، روح التضحية من أجل المصلحة الأمة ولو كان على حساب المصلحة الشخصية، فلقد رفع الكثيرون شعار: أنا ومن بعدي الطوفان، واستشرت الأنانية وعشق الذات على حساب مصلحة الأمة ومصلحة المجموع، تلك الروح التي كانت بين جنبات الإمام أحمد بن حنبل الذي حفظ الله به الإسلام أيام المحنة.
فلقد كان حول الخليفة سياج من المعتزلة الذين ينفون صفة الكلام عن الله، وقالوا أن القرآن مخلوق، والقرآن كما عليه أهل السنة والجماعة هو كلام الله غير مخلوق، فتأثر بهم الخليفة وامتحن الناس على خلق القرآن، فمن قال أنه مخلوق خلى سبيله، ومن قال بأنه كلام الله ليس بمخلوق عذبه وسجنه حتى يقر بما يريد.
فقبل العلماء الرخصة وقالوا تقية: أن القرآن مخلوق، إلا الإمام أحمد، والذي رفض أن ينجو بنفسه ثم يترك الاعتقاد الفاسد ينتشر بين الناس، ولما نصحه بعض العلماء بالتقية، أمرهم أن ينظروا خارج الدار، فإذا بالألوف من الناس يمسكون بالأقلام والمحابر لكي يدونوا ما يقول الإمام أحمد في القرآن، فقال: (إذا تكلم العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يعرف الحق؟).
وثبت الإمام ثبات الجبال، حتى قال أحد جلاديه: لقد ضربت الإمام مائة سوط لو كانت على فيل لبرك)، فثبت وأثر مصلحة الأمة على مصلحته الشخصية حتى أتاه الفرج من ربه، ورفع الله في العالمين ذكره.
فما أحوجنا لتلك الروح، إننا بحاجة إلى اقتلاع جذور الفساد، وغرس بذور الصلاح في تربتنا الحبيبة، نريد قلوبًا تنبض بحب الوطن، تحافظ عليه، تنظر إلى مصلحة الأمة وتوطن النفس على السعي الحثيث في تلك المصالح العامة، وهكذا علمتني النملة.
الدرس الثالث: الانشغال بالجهد لا بتوقع النتائج
لقد ضربت لنا النملة مثالًا فريدًا في الاهتمام والانشغال بالجهد دون التركيز على النتائج المحتملة، وهذا لعمري سمت الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، فهم يوظفون طاقاتهم في بذل الجهد، فعليه مدار الثواب والعقاب، وليس النتيجة، والتقصير إنما يأتي من ناحية الجهد وليس النتائج، وإلا اتهمنا أنبياء الله بالتقصير، فإن منهم من لم يؤمن به سوى بضع من البشر، ومنهم من لم يؤمن له أي من البشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد).،وحاشا لله أن يقصر أنبياء الله في الدعوة إليه.
وهذه النملة لم تسأل نفسها مثلًا: وهل يغني صوتي الضعيف أو ينفع بشيء؟ هل عساه يصل إلى جموع النمل الغزيرة فيحذرها؟ هل سأتمكن من تحذيرهم قبل فوات الأوان؟
لم يكن همها لينصرف إلى احتمال النتائج وإن كانت تفرض نفسها لا محالة، ولكن الانشغال ببذل الجهد واستفراغ الوسع في طلب المصلحة أولى وأعظم من تضييع الوقت في توقع النتائج، وفي ذلك يطل علينا حديث عظيم لرسول الأنام صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر).
فالحديث يفيض علينا بغيث الفوائد والتي من جملتها أهمية النظر إلى الجهد دون انتظار النتائج والركون إلى توقع النتائج بصورة مبالغ فيها على حساب الجهد والعمل، وهكذا علمتني النملة.
الدرس الرابع: تقديم الحلول العملية
إن الملاحظ على مسلك النملة أنها لم تحذر فقط، ولكنها قدمت الحل العملي الذي يريح الأمة من عناء التفكير في المخرج من المآزق: (ادخلوا مساكنكم)، فإنها لم تطلق صيحات التحذير وتكتف بهذا الإنجاز، بل قدمت لهم حلًا عمليًا وهو الدخول إلى المساكن، وهذا كما رأت النملة الحل الأمثل نظرًا لأن الفرار إلى أي جهة على سطح الأرض يفوت على النمل الفرصة في النجاة أمام هذه الجحافل العسكرية القادمة،فقدمت حلًا سريعًا سهلًا يتلاءم وطبيعة النمل وإمكاناتها.
إن تقديم الحلول العملية للأمة هو الأمر العظيم الذي يفتقر إليه كثير من الدعاة، فمن اليسير أن تعظ الناس وتحثهم على الإيمان والطاعة والالتزام بشرع الله، لكن ذلك وحده لا يكفي، لابد من تقديم حلول عملية مع الحلول الإيمانية.
ولقد كان للإعلام المغرض دوره في الترويج لفكرة أن الدعاة من أهل السنة لا يملكون تقديم حلول عملية للأمة بينما يجدونها بحوزة العلمانيين، وفي أحد الأفلام القديمة الشهيرة، لجأ اللص الذي يفر من الظروف الصعبة التي مر بها وجعلت منه مجرمًا، لجأ إلى شيخ يتعبد في زاويته، وطلب منه تقديم حل للخروج مما هو فيه، فإذا بالشيخ لا يزيد على أن يقول له توضأ وصل، أراد الإعلام بذلك أن يبث اليأس في نفوس الناس من أن أهل الصلاح لا يملكون لحل الأزمات سوى الأمر بالصلاة وتلاوة القرآن.
ولم يكن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الكرام، فعن عمر رضي الله عنه أنه رأى إبلاً جرباء فسألهم : ماذا تصنعون لعلاج هذه الإبل؟ قالوا: عندنا عجوز صالحة نذهب إليها فتدعو لها ! فقال رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران).
فعلى الدعاة إلى الله الانصهار مع مجتمعاتهم وعدم الاقتصار على الكلام النظري، وإنما يشفع بتقديم حلول عملية، فإذا ما تكلم الداعية عن العمل وقيمته في الإسلام، ونبذ البطالة، فعليه أن يقترح على العاطلين حلولًا عملية تتجلى مثلًا في اقتراح مشروعات يسيرة صغيرة في متناول الناس، فهذا هو منهج الإسلام الصحيح في التعامل مع مشاكل الناس في المجتمع الإسلامي، وهكذا علمتني النملة.
الدرس الخامس: حسن الظن
دقق النظر في كلمات النملة: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)،لقد قدمت حسن الظن بسليمان وجيشه، لأن النمل صغير جدًا لا يكاد أحد يمشي على الأرض يلتفت إليه أو يجذب النمل انتباهه، فكونها في ذلك الموقف العظيم الخطر تحسن الظن وتزيد على كلمات التحذير تلك الجملة، فلا ريب أن هذا منطق بالغ الأهمية أراد القرآن بيانه للناس.
وحري بنا نحن المكلفون أن نمتثل لأمر الله: (يا أيها الذين اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم)، إننا بحاجة إلى التخلص من أسر الحكم على النوايا واتهامها، بحاجة إلى إجراء الأحكام على الظاهر كما أجمع على ذلك أهل العلم، بحاجة إلى مدافعة الخواطر الرديئة في النفس والتي تزيد من اشتعالها تجاه المسلمين، بحاجة إلى التماس الأعذار وتأويل السيئات على الوجه الحسن إن كانت تحتمل، بحاجة إلى الكف عن التفتيش في قلوب الناس والبوح عن سرائرهم بالظن والتخرص.
وكثيرًا ما حذر الإسلام من سوء الظن، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
ويقول ابن سيرين رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه".
وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوى لله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ، قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير".
فهذه الروح لا بد وأن تسود بيننا حتى نكون على قلب رجل واحد، فحسن الظن بالآخرين خطوة عظيمة سديدة على طريق حل الخلافات بين المسلمين، وهكذا علمتني النملة.[b]