لم تعرف هبة شيئا عن صخب الدنيا ودوشتها فقد أتت إليها بلاقدرة علي السمع أو الكلام..احتضنها الصمت منذ اللحظة الأولي لها في هذه الدنيا وأحاط بها عجزها الصامت يوما بعد يوم تكبر ويكبر معها ولكن وعيها بنفسها وبالحياة لم يعجز معها فاستطاعت أن تتعايش مع الدنيا حتي باتت فتاة رقيقة بها مسحة من جمال الخلق والروح أيضا..!!
لم تكن الابنة الوحيدة ولكنها كانت الفريدة فهي من بين شقيقتيها الأجمل والأهدأ بطبيعة الحال..تنزوي دائما في ركن خاص بها تأنس بعالمها الخاص, حتي أحلامها وخيالات العاطفة التي بدأت تسكن قلبها مثلها مثل كل الفتيات ممن هن في مثل سنها كانت ذات طبيعة خاصة فهي لاتحلم بفارس رومانسي يأتي إليها راكبا فرسا ويحملها ويذهب بها بعيدا.. هي تحلم بانسان مثلها يشاركها الصمت ويعيش معها فيه..لقد تحول الصمت في صدر هبة الي عالم حقيقي تعيش فيه بصدق..أما العالم الذي يعيشه الأخرون فهو الاستثناء غير الطبيعي..ولأنها كانت صادقة في أحاسيسها ومشاعرها كانت سعيدة ولم يبخل عليها القدر بتحقيق أحلامها البسيطة وأراد لها أن تقابل الشخص المناسب لها في مدرسة الصم والبكم التي كانت تدرس بها..!! كان شابا يافعا قسمات وجهة هادئة تبدو عليه مقومات الرجولة بدنا وروحا ولكنه مثلها ولد في دائرة الصمت لم يتعرف علي أصوات البشر ولم يستطع حتي أن ينطق بحرف من حروف كلامهم..يعتمد دائما علي إحساسه بالأخرين..يستطيع أن يفهمهم من نظراتهم وحركات أيديهم وتعبيرات وجوههم!!
عندما تعرف علي هبة جمع بينهما الصمت.. أحس كل منهما بالآخر وتعانقت مشاعرهما الصامتة وامتلأ قلباهما بمعان كثيرة لاتستطيع أي كلمات في الدنيا ان تعبر عنها.
تقدم للزواج منها بعد أن أنهيا دراستهما واستطاع العمل في هيئة النقل العام بنسبة الخمسة في المائة للمعاقين..ورغم راتبه البسيط استطاع أن يؤجر لها شقة بنظام التعاقد بالايجارات الجديدة وبمساعدة الاهل والأصدقاء تأثث البيت وبدأ كل منهما مشوار حياته الي جوار الأخر وتحول الصمت الساكن بينهما الي لغة حوار خاصة بينهما..تنظر اليه فيعرف ماذا تريد ويجيبها بنظرات عينيه أيضا..واجتهدت حتي تسعده وكم كانت فرحته عندما علم بحملها وسريعا أهدته طفلة جميلة أسمياها نسمة لأنها كانت النسمة الرقيقة التي تلطف عليهما حسر الصراع مع الحياة وتدبير لقمة العيش.. وكبرت نسمة ولكنها كما ورثت من أمها رقتها وجمالها ورثت عنها وعن أبيها ميراث الصمت..وكأنها تقول لهما أن حياتهما الصامتة هذه أفضل بكثير من حياة الصخب والدوشة التي اعتاد عليها البشر..وكبرت وكبرت فرحتها بها واكتملت الفرحة عندما جاءت شقيقتها سماح الي الدنيا بعدها بست سنوات.. ومثلها مثل شقيقتها ولدت في دنيا صامتة ليكتمل موروث الصمت بها..!!
ولأنه ليس دائما تأتي الرياح بما تشتهيه السفن توقفت رحلة السعادة الصامتة عندما تعرضت هذه الأسرة لحدث أشبه بالزلزال هز كيان الأسرة عندما سقط الأب مريضا لفترة طويلة انتهت بضعف بصره بصورة كبيرة تقترب من العتمة ليصبح عاجزا عن الرؤية بنسبة90% حبيس الصمت والعتمة غير قادر علي العمل قابعا في جدران بيته بلا حراك يتملك منه اليأس الي مدي بعيد خاصة وأن صاحب العقار الذي يسكنون عنده يهدده بالطرد هو وأسرته من الشقة بحجة ان عقد الإيجار المؤقت انتهي وعليه أن أراد أن يستمر في الشقة أن يدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه مقدم ايجار لكي يحصل علي عقد ايجار لمدة خمس سنوات..ولكنه في عجزه شبه المتكامل هذا لايملك هذا المبلغ ليستر به أسرته ويحميهم من مصير مجهول بطردهم الي الشارع...!!حضر الأب وزوجته هبة وابنتاهما نسمة وسماح إلي الأهرام المسائي يبحثون عن بارقة أمل لعل محافظ القاهرة عبد القوي خليفة يرق لحال هذه الأسرة ويستجيب للطلب الذي تقدم به الأب محمود عبد النبي للحصول علي شقة من شقق المحافظة منذ عام1993 ومنذ ذلك التاريخ والطلب مجمد داخل أدراج موظفي المحافظة.