حكاية عم عبده!
827
عدد القراءات
منذ سنوات وهو يتردد علي محطة بنزين شهيرة إما للتزود بالوقود أو لغسل وتشحيم سيارته لفت انتباهه وجود عامل نشيط بشكل لافت علي الرغم من أن عمره قد ناهز الستة والسبعين عاما.
إنه عم عبده الذي يعرفه كل المترددين علي محطة البنزين ويقدرونه لدماثة خلقه وخبرته الطويلة التي لا يبخل بها علي أحد, ناهيك عن كاريزما لافتة يتسم بها الرجل.
ذهب منذ أيام لغسل وتشحيم سيارته.. فوجد عم عبده جالسا في انتظار سيارة يتم تنظيفها توطئة لكي يتولي هو تشحيمها. جلس بجوار عم عبده يتجاذبان أطراف الحديث. ولأن كل حديث في كل مجلس لا يخلو الآن من أحوال مصر, فقد تطرق حديثهما إلي ما تشهده الساحة الآن. استعرض عم عبده أسماء المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية مبديا إعجابه بأحد هؤلاء لأنه من خلال لقاء تليفزيوني معه تحدث عن مسئولية الدولة نحو المسنين الذين يعملون بالقطاع الخاص حتي لا يضطروا للعمل في هذه السن لتوفير احتياجات الحياة الضرورية لأسرهم فالمعاشات الهزيلة التي يتقاضونها لا تصمد أمام غول الأسعار, حيث يقطن عم عبده علي بعد ثلاثين كيلو مترا من مكان عمله, وهو بعد أدائه صلاة الفجر يذهب توا للعمل في رحلة تتطلب منه ركوب ثلاث مواصلات في الذهاب والإياب. أجمل ما قاله أنه طوال هذه الرحلة الطويلة يظل يسبح الله آلاف المرات.. ونادي ملاحظ المحطة( وهو مهندس زراعي لم يجد عملا في مجال تخصصه) علي عم عبده بود لكي يتسلم السيارة. فنهض الرجل بهمة ويبدأ في تشحيم السيارة بإتقان ودقة بالغين.
انشغل صاحبنا عما يدور حوله بالمحطة التي تموج بالحركة وكأنها خلية نحل, وفكر مليا فيما قاله عم عبده ولاسيما عن إعجابه بما قاله المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية عن المسنين ومسئولية الدولة نحوهم, سأل نفسه: لقد مضي علي ثورة25 يناير عشرة أشهر, وعلي الرغم من ذلك فإن شيئا ذا بال لم يتحقق في قضية العدالة الاجتماعية التي كانت إحدي القضايا الرئيسية التي فجرت بركان الثورة, فقد تاه الجميع للأسف سواء كانوا مسئولين تنفيذيين أو حزبيين أو نشطاء سياسيين.. تاه الجميع في دهاليز السياسة ومتاهات الانتخابات وزاد الجدل والسجال حول مزايا ومثالب الانتخابات بالفردي وبالقائمة وهل هي القائمة المفتوحة أم المغلقة؟. المطلقة أم النسبية؟ ونسي الجميع قضية لا تقل أهمية إن لم تكن الأهم وهي قضية العدالة الاجتماعية, فعم عبده وملايين معه في مصر لا يعبأون كثيرا بالقائمة ولا يعنيهم كثيرا ماهيتها, ولكن الشغل الشاغل لهم هو توفير الحياة الكريمة لأسرهم. لم يجد مناصا إلا أن يقارن بين عم عبده كمثال لملايين المصريين الذين يطلق عليهم ملح الأرض وهم يكدون ويكدحون حتي في هذه السن المتقدمة لكي يأكلوا لقمتهم بالحلال, وبين لصوص العهد البائد الذين سرقوا ونهبوا ثروات مصر, الأنكي أن ديون مصر لم تسلم من عمليات النهب والتربح من قبل زبانية العهد البائد, فها هو ستيفن كوك الخبير بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية يقول في كتابه الجديد( مصر من ناصر حتي ميدان التحرير): كان جمال مبارك يعمل في بنك أوف أمريكا, وكان البنك مسئولا عن بيع ديون مصر, وكان جمال مبارك هو الذي تولي هذه العملية التي حققت للبنك الأمريكي مكاسب كبيرة كان له نصيب كبير منها. كان جمال مبارك يحصل علي أرباح نتيجة قيامه ببيع الديون المصرية للبنك الذي يعمل به مقابل حصوله علي عمولة, ثم يساعد البنك الأمريكي في بيع هذه الديون لبنوك مصر ليحصل كموظف بالبنك الأمريكي علي عمولة أخري, يا للعبقرية(!!).
شرد بخياله بعيدا وهو يستعيد الإحصاءات التي قرأها عن المناطق العشوائية(1200 منطقة يقطنها20 مليون مصري), وتجسدت أمامه العشوائيات التي تحيط بالقاهرة كما يحيط السوار بالمعصم.. قارن بين المنتجعات والعشوائيات.. بين القطامية الباذخة والدويقة البائسة. في العشوائيات لا يعيش الناس تحت خط الفقر بل تحت خط الكرامة الإنسانية. تألم لأن الكرامة الإنسانية كانت أيقونة من أيقونات ثورة يناير.. بيد أن الجميع للأسف سواء الثوار أو من ركبوا موجة الثورة نسوا هذه الأيقونة فأصبحت سقط متاع من سوق عكاظ الذي يقام كل ليلة فيما يعرف ببرامج التوك شو.. يتحدثون وينظرون ويتفلسفون في القاعة المكيفة والفنادق الفاخرة.. وكل ما يتحدثون عنه لا يهم كثيرا عم عبده وملايين مثله. قبل الثورة كان كثيرا ما يقول لأصدقائه وزملائه, إن الثورة قادمة لا محالة, ولكنه كان يتمني أن تكون ثورة جياع تنطلق من منصة العشوائيات.. فلما قامت الثورة حمد الله كثيرا لأنها ثورة كل الشعب, بيد أن الخوف بدأ يعاوده من جديد من قيام ثورة الجياع ولا سيما وأن النخبة السياسية في مصر مشغولة بأمور كثيرة مع غض الطرف عما يهم السواد الأعظم من المصريين.. الأمن وكيف يتحقق.. العدالة الاجتماعية وكيف تكون واقعا معاشا وليس شعارا رنانا يتردد. ظل يسأل نفسه: متي نفيق جميعا؟ متي يتوقف صراخنا الذي لا نسمع إلا رجع صداه وكأننا نصرخ في واد سحيق؟[b]