فمنذ القِدَم وهناك صِراعٌ بين القلب والعقل أيهما يتحكم في الإنسان أم أّنه هوى النفس. وتضاربت آراء الناس ونظرتهم إلى هذا الموضوع حسب ميول وطبيعة كل إنسان
فمنهم مَن يرى أّن القلب (الحدس) هو ما يسيره في هذه الحياة ويتصرف في حياته على هذا الأساس ويلغي عقله فهو يرى أّنه دليل على الجفاء وأّنه بدون المشاعر يصبح
كالآلة التي ليس لها قلب.
أما الجانب الآخر فيرى أّن العقل هو الذي يضمن للإنسان الحياة الأفضل فقوانينه ثابتة لا تتغير فهم لا يثقون بالمشاعر ويرون أّنها ضعفًا كما أّن هذا الأسلوب
بالنسبة لهم عشوائيًا ولا يخضع لقانون معين.
وهنا نجد في كلٍ من الفرقتين مجموعة من الثغرات تجعل التفكير نسبي أو بمعنى آخر ما يجب أن يسير عليه الإنسان ليس معروفًا:
فبالنسبة للقلب فإّنه متغير من وقتٍ لآخر لا يثبت على حال فقد سُّمِيَ بهذا الاسم لكثرة تقلبه وعدم ثباته هذا من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى أن كل إنسان يرى الفضيلة
بمنظورٍ مختلف فالخير بالنسبة لي قد يكون شرًا لغيري كما أّن هناك القلوب القاسية والقلوب الرحيمة وهكذا...
وأما بالنسبة للعقل فإّن القوانين العقلية بعضها ثابت وبعضها يتغير من شخصٍ إلى آخر حسب ثقافته المعرفية كما أّن اختلاف القدرات العقلية (الذكاء) يُعَد عائقًا
أمام ثبات التفكير العقلي ومن هنا يأتي اختلاف الآراء والأهواء بالنسبة للقلب والعقل.
وقد ظهر من يحاول التوفيق بين النظريتين بأخذ مزايا القلب والعقل لتشكيل ما يسمى بالقلب المفكر أو العقل العاطفي والذي يجعل الإنسان يفكر بعقلية واعية بعيدة
عن العشوائية كما أّنه غير خالٍ من المشاعر التي تجعل في حسبانه مشاعر الآخرين والمعاني السامية والفضائل الكريمة, ولكن هذا الاتجاه أيضًا لم يتغلب على مشكلة
النسبية في التفكير والمنهج الذي يسير عليه الإنسان.
ومنذ فترة كنت أتناقش في هذا الموضوع مع أحدهم فاقترحت اقطراحًا هو تعديل لهذا الدمج بين القلب والعقل وهو وضع مبادئ قلبية ثابتة للفضائل الخيرة ووضعها في قوانين
يتعامل من خلالها العقل وبذلك نكون قد وفقنا بين القلب والعقل, ولكن ظهر لي أّن مَن يضع هذه القوانين سيكون متأثرًا بميوله ومشاعره الخاصة وبذلك سنسير في نفس
هذه الدائرة المغلقة.
ونستخلص من ذلك كله أّنه لا يمكن التوفيق بين القلب والعقل إّلا بواسطة المنهج الإلهي المُحكم الذي وضعه للأنام للسير عليه إلى يوم القيامة لا يتقادم مع تتابع
القرون لأن مَن وضعه هو خالق الزمن فهو (سبحاه وتعالى) يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وقد وضعه على هذا الأساس وكلنا يعلم مدى فشل القوانين
الوضعية في الاستمرار فهو المنهج الصحيح الذي سار عليه الأنبياء والسلف الصالح فكسبوا ود الناس بمعانيه السامية وقيمه الفاضلة وصاروا أعلامًا للعلم بفضل ما
يحويه من علمٍ غزير لا ينفد مع الأيام.
فالعقل مخلوقٌ ناقص محدود القدرة على التفكير لا يصل إلى الطريق الصحيح بمفرده, وقلوب العباد بين أصبعين يقلبهم الرحمن كيف يشاء.
فاللهّم ثّبت قلوبنا على الهدى والإيمان وتوفنا مسلمين يا رب العالمين.