أشواك الحب
بقلم : زينات إبراهيم
محاكمة شجرة الصفصاف
يحكي أن شجرة ضخمة لعلها كانت شجرة صفصاف علي شاطيء النهر.. وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها.. ويتصادف مرور إلهة الحب العطوفة بهذا المكان فتشفق علي الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستان قصر أمير البلاد يتعهدها بالرعاية والحماية وتصبح رمزاً للحرية والعدل.. غير أن الأقدار لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل.. فقد نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوي لأفعي شريرة لم ينفع السحر في إخراجها منه.. كما أصبحت أطراف فروعها مسكناً لطائر العاصفة الأهوج الذي بني عشه فوقها.. وغدت ساقها القوية بيتاً للقردة والشياطين.
تعذر علي إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاء مراً وهي تبث شقيقها إله الشمس حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها وما فعله بها الأفعي الشريرة وطائر العاصفة الأهوج والقردة والشياطين الذين اغتالوا الحرية والعدل ونهبوا الثروة والأرض وقتلوا الحلم الوردي في عيون المرأة والشاب اليافع والطفل العاجز والأم والأب.
يقول الراوي إنه كان هناك.. هو الذي رأي كل شيء حتي تخوم البلاد.. هو الذي تغلغل ببصره في الهاوية المظلمة.. عرف الأسرار والخبايا وجاء بأنباء ما قبل الطوفان.. فأتباع الأفاعي والقردة والشياطين مضوا في الظلم الفادح ليل نهار في غفلة من أمير البلاد الذي لم يكن جباراً ظالماً ولا طاغية آثماً.. كان بطلاً حالماً وحكيماً ثائراً والراعي المسئول عن تحقيق حلم الشعب.. كان من سافر في الأرض وغامر بحياته عبر بحار الموت وقطع الأنهار والوديان وقتل الوحش الغادر ومحي الهزيمة وصد العدوان ورفع علم النصر.. لكن شجرة الفساد تتوحش.. يخرج منها الأوغاد والأفاعي والشياطين.. يريدون قطف فاكهة اللحظة قبل فوات الوقت فيدخلون من شقوق النوافذ والجدران.. يلثمون العتبة والأبواب.. يتغنون بأمجاد الأمير وعظمته ويملأون غرف وردهات القصر بقصص وحكايات وهمية أسقطت قناعاته بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها مهما صور له الكهنوت أن نصفه إلهي والنصف الباقي بشري زائل.
رويداً رويداً تمكن القردة والأفاعي والغربان من عزل الأمير عن شعبه حتي حلت اللعنة في الأرض ولم يبق غير الجوع والقحط والمرض واليتم.. وحيرة تعصف بالقلب ولا أحد يعرف أيهما الكذب وأيهما الصدق.. الكلمة التي ينقشها القلم أم الكلمة تنطقها الشفاه من القلب؟
يقول الراوي إنه استيقظ ذات صباح علي دقات طبول وأصوات هتافات لم يسمعها من قبل فقد خرج الشعب الثائر المقهور يشكو من ظلم واستبداد جبابرة العصر.
شباب ونساء وأطفال.. جنود وحراس وكهنة وشيوخ.. عمال وفلاحون وموظفون ساروا جميعاً نحو القصر يطالبون برحيل الأمير وحاشيته.. لكن القردة والأفاعي والحيتان والغربان أطلقوا عليهم وحوشاً برية راحوا يصوبون خناجرهم وسيوفهم المغموسة بالسم القاتل فأصابوا المئات ما بين قتلي وجرحي ومفقودين.
تألم الراوي لمشهد الدم الطاهر الذي سال.. تألم أكثر للفوضي التي عمت البلاد والجشع الجامح الذي دفع البعض لسرقة الأرض والآثار.. وهؤلاء المخربون والمجرمون الذين دمروا السكك الحديدية وأوقفوا حركة القطارات وحطموا المتاجر والحانات وروعوا الناس واستباحوا الأموال والأعراض والممتلكات.
لايزال الراوي يحكي متألماً.. صوته المفجوع المحزن ينسكب كدمع العين فقد أصبح لا يحتمل العيش ولا يحتمل الموت.. الحزن ينام في مخدعه ويسكن عينيه ويلازم خطاه أينما ذهب وأينما حل.. عاشقاً متفانياً في حب الوطن وناقماً باكياً يصب لعناته فوق المدينة وكل المدن التي أنكرت الحب والتسامح والغفران.. ومن بعيد تبدو له أسوار المدينة وأطلالها الحزينة ويسمع دقات الطبول الخافتة التي ترتفع شيئاً فشيئاً معلنة رحيل أمير البلاد.
وكمن مضي في سفر بعيد حتي حل به الضني والعناء يحفر الراوي علي لوح حجري كل ما أصابه وأصاب بلاده من تعب وحزن وشقاء مطالباً بمحاكمة القردة والأفاعي والغربان الذين احتلوا شجرة الصفصاف في جوف الليل:
من قتل الزوجة والطفل
وسرق الأرض والحقل
من اغتال حلم الشهيد
وأضاء المصباح بزيت الغضب والذل.