مع الذكري الأولي لرحيل المفكر الكبير د. مصطفي محمود تجولت في مجموعة كتبه التي أحتفظ بها منذ عشرات السنين، امتدت يدي إلي الكتاب المفصلي بين كتبه، إنه كتاب «رحلتي من الشك إلي الإيمان».
النسخة التي أحتفظ بها ولم أحاول أن أشتري سواها مع تكرار طبعات الكتاب هي نسخة التهمت سطورها عيناي منذ حوالي الأربعين عاما، فهي منشورة تحديدا عام 1971.
مسجل عليها أيضا أنها الطبعة الثانية للكتاب.
أما السعر المطبوع علي غلافها الخلفي فهو «30 قرشا».
هي نسخة من السهل أن تنفرط إذا تجرأ القارئ وقام بالتقليب في الصفحات بالطريقة الطبيعية.
هي نسخة من الواضح أنني قد حاولت في يوم ما حماية صفحاتها من التبعثر عبر شريط لاصق لونه بني، من ذلك النوع من أشرطة اللصق العتيقة التي كانت سائدة قبل ظهور أشرطة اللصق البيضاء الشفافة.
هي نسخة عندما قرأتها كنت طالبة بالمرحلة الثانوية حيث فجرت بداخلي أفكارا وفتحت آفاقا، وشكلت جانبا مشهودا داخل وجداني، كما صارت هي البوابة التي دخلت منها إلي قراءة أعمال مصطفي محمود، ثم تطورت علاقتي مع ما تعرفت عليه عبر سطورها لتنقلني إلي قراءة أعمال عديدة أخري بأقلام أخري .
وإذا بي بعد مرور السنين وأنا أمسك بتلك النسخة بين يدي، من جديد أكتشف أن ارتباطي بما في داخلها من تأملات قد امتد أيضا إلي أن أرتبط بأوراقها تحديدا، في شكل من أشكال العلاقة الرمزية بالأشياء بما تمثله لدينا من اعتزاز بمشاعر طيبة شهدتها معنا الأشياء، كعقد من الياسمين شهد ذات يوم نظرة حب بين حبيبين فلم يجد الطريق المعتاد إلي سلة النفايات، إنما تم الاحتفاظ به في زاوية صندوق مهجور. أو قنينة عطر صارت فارغة امتدت بها ذات يوم يد زوج إلي زوجة في أول احتفال معا بعيد ميلادها، فظلت القنينة بعد الانتهاء من استخدام محتوياتها مستكينة بداخل علبتها القديمة عقب القيام بدسها في خلفية الرف الذي يضم زجاجات العطر وأدوات الزينة الأخري.
نسخة الكتاب التي أحتفظ بها لرائعة د . مصطفي محمود «رحلتي من الشك إلي الإيمان» هي نسخة متهالكة الأوراق، إنما المكتوب بداخلها هو كلمات عفية مازالت تمتلك القدرة علي إثارة حالة من التأمل والتفكر والتوجه إلي الله سبحانه بشكر المحب، وحب الشاكر، بلهفة المحتاج وفرحة العائد.
كيف لا وقد بدأ د. مصطفي محمود كتابه بتساؤل فترة مراهقته ومراهقة الكثيرين حول «الله» سبحانه وتعالي.
ثم طافت الكلمات بنا مع صوت الفطرة تارة، ومع جدل العقل تارة أخري وصولا إلي السطور الأخيرة من الرحلة حيث يقول: «وجوابا علي الذين يسألون في حيرة لماذا خلقنا الله ، لماذا أوجدنا في هذه الدنيا، ما حكمة هذا العذاب الذي نعانيه، يجيب القرآن بمجموع آياته أن الله أنزل الإنسان إلي الدنيا بفضول مفطور فيه، ليتعرف علي مجهولاتها، ثم يتعرف علي نفسه.
ومن خلال إدراكه لنفسه يدرك ربه، ويدرك مقام هذا الرب الجليل، فيعبده ويحبه، وبذلك يصبح أهلا لمحبته وعطائه، ولهذا خلقنا الله، لهذا الهدف النهائي، ليحبنا ويعطينا.
وهو يعذبنا ليوقظنا من غفلتنا فنصبح أهلا لمحبته وعطائه.
بالحب خلق.
وللحب خلق.
وللحب يعذب.
تبارك وتعالي في سماواته، الذي خلقنا باسمه الرحمن الرحيم.