قلب جديد .....للراحل عبد الوهاب مطاوع
بيزات
قلب جديد !
ثلاث سنوات وهو يعمل معها في نفس المكان ، ولم تلتفت إليه ، ولم تشعر
بوجوده ، إنه شاب خجول منطو على نفسه . . قليل الكلام يؤدي عمله في صمت
، ويغادر المكان في هدوء ، وهي شابة جميلة تحب الحياة والناس ، لكنها تقول
عن نفسها أنها لا تعرف كيف تختارحياتها . . فمن تحبه لا يلبث وأن يهجرها بلا
سبب ، ومن يرغبها تعمى عنه إلى أن ينصرف عنها ، وليس لها من صديقة
سوى زميلتها السمراء التي تعمل في نفس الكافتيريا وتتهمها دائما بالسذاجة لأنها
تقبل على من تحب بلا تحفظ ، وتغمره بحبها فلا يلبث أن يزهد فيها . .
وصديقها قد فاجأها بالغدر على غير انتظار ، فكرهت كل شئ ، وقررت أن تغلق
قلبها في وجه الجميع إلى أن تتعلم خبرة الحب التي تتيح لها أن تكون هي
المرغوبة ويكون الطرف الآخر هو الحريص على الاحتفاظ بها .
وبين حديث العزاء المتبادل بين الصديقتين خلال لحظات الراحة من العمل تلتفت
الشابة الحزية إلى ذلك الشاب المنطوي الذي يعمي في هدوء في مظبخ الكافتيريا
وتسأل صديقتها السمراء هل هو قادر حقا على الكلام ؟ وتشاركها صديقتها
التعجب لأحواله وصمته وشعره الطويل المنسدل على جانبي وجهه . . ثم تنهض
كلتاهما لأداء عملهما قبل أن يوبخهما مدير الكافتيريا أو المطعم .
وفي المساء تغادر الفتاة الحائرة مع قلبها المكان عائدة على الأقدام إلى بيتها
فيلاحقها شابان عابثان يتحرشان بها ويتجاذبانها في الحدية الخالية التي تقطعها
كل مساء في طريق العودة . . وتدافع الفتاة عن نفسها بكل طافتها فلا تلبث أن
تنهار مغمى عليها ، وفي اللحظة التي يوشك فيها الشابان على اقتراف جريمتهما
يظهر فجأة الشاب الصامت عامل الكافتيريا ويطيح بهما وينحني على زميلته
الشابة وينظر إليها بتألم شديد ثم يخلع سترته ويغطي بها ما تكشف من جسمها
خلال تعرضها لمحاولة الشابين للاعتداء عليها ، ويحملها على ذراعيه وهي
غائبة عن الوعي ويتجه بها إلى بيتها فينزلها أمام بابه ويجلس غير بعيد عنها
يترقب تنبهها مما غشلها إلى أن تفيق مرتعبة فتنظر إلى نفسها في فزع وإلى
الشاب الغريب الصامت في قلق ثم تفتح باب بيتها وتغيب وراءه بلا كلمة واحدة
ويمضي الشاب في طريقه عائداً إلى بيته .
وفي اليوم التالي غابت الفتاة عن عملها ولم تذهب إليه ، ثم رجعت إلى عملها
تحمل على يدها سترة زميلها ، فتوجهت إلى المطبخ وأعادتها إلى الشاب
الصامت شاكرة ، فإذا به يقول لها متألماً وهو يخفض عينيع حتى لا يواجه
نظرتها إنه شديد الأسف ، لأنه قد تأخر في العمل بعض الشئ ليلة الحادث المؤلم
فلم يستطع حمايتها من هذين الشابين قبل أن يتجرآ عليها بالايذاء .
وتكتشف الفتاة أن الشاب الصامت الخجول كان يتبعها دائماً عن بعد كلما عملت
في وردية المساء واضطرت للعودة وحدها إلى بيتها في وقت متأخر .
وتسأله بدهشة : هل كنت تتبعني من قبل ؟
ويجيبها ورأسه لا يزال منحنيا على صدره : نعم لأحميك من أخطار الطريق
في لليل .
وتغادر الفتاة لتبدأ عملها وهي مشغولة الخاطر بهذا الشاب الغريب . . لقد حماها
من عدوان الشابين العابثين لكنه شديد التألم ، لأنه لم يستطع أن يمنع العدوان من
البداية . ولقد كان يتتبعها كلما غادرت العمل وحيدة إلى بيتها في المساء ليحميها
من أخطار الطريق ويحرص على ألا تراه أو تشعر به خلال ذلك وهو يتحدث
إليها ورأسه منكس إلى الأرض وبصوت خفيض خجول ، ولا يجرء على
النظرإليها ، فأي مشاعر صادقة يحملها هذا الشاب الصامت تجاهها . وشيئا فشيئاً
تجد لفتاة نفسها مهتمة بهذا الشاب الغامض . . وتلتقي به في غير أوقات
العمل فتعرف عنه أنه شاب يتيم تربى في بيت لرعاية الأطفال اليتامى ،
وكان طفلا مريضا معظم سنوات طفولته ، وأنه شاب مثقف يقرأ الكتب
التي لا يقرأها أمثاله بالمطعم ويحتفظ بأسطوانات الموسيقى الكلاسيك ،
ويفسر لها وجود عدد كبير من الكتب في مسكنه انه لا ينام كثيرا وأنه
اعتاد العزلة منذ طفولته المريضه التي حرمه المرض خلالها من مشاركة
الاطفالألعابهم . . وتزداد الفتاة أقترابا منه وأحتراما لمشاعره وأفكاره رغم
غرابتها وتطلب منه أن يرفع عينيه في وجهها حين يتحدث إليها ، وتدعوه
لقضاء ليلة رأس السنة في بيتها مع أسرتها .
وتتكتم الفتاة علاقتها الحميمة به حتى عن صديقتها السمراء الوحدية ،
وتفاجأ ذات مساء به وهو يترنح والدماء تنزف منه بغزارة ، فقد كان يخرج
بعض المهملات من الباب الخلفي للمطعم فترصدة الشابان العابثان بعد أن
برآ من جراحهما وأنهالا عليه ضربا وركلا ثم طعنه أحدهما بمطواة في
بطنه فتحامل على نفسه ونزع المطواة بيده ، ثم دخل إلى المطعم يترنح
ويوشك على السقوط ، وصرخت الفتاة الجميلة صرخة مدوية حين رأته
يتهاوى أمامها ورافقته في سيارة الاسعاف إلى المستشفى ، وصارحت
رجال الشرطة بما حدث لها يوم محاولة الاعتداء عليها وعلاقة ذلك بما
فعله الشابان العابثان بفتاها . . فألقت الشرطة القبض عليهما .
ولازمت الفتى الجريح في المستشفى وراحت تسأل الطبيب بقلق عن حالته
فيجيبها بأنها خطيرة ليس بسبب طعنة المطواة وما تعرض له من ضرب
وإيذاء وإنما لأن الفتى مولود بعيب خلقي في القلب ولا علاج له إلا بعملية
زرع قلب جديد في صدره بدلاً من قلبه المريض . وتهلع الفتاة لما سمعت
وتأمل أن ينجح الأطباء في إنقاذ حياته ، لكن الفتى يرفض يإصرار غريب
فكرة انتزاع قلبه من صدره واستبداله بقلب جديد ، ويتمرد على قيود المستشفى
فينزع الأنابيب التي تربطه بالأجهزة الطبيه ، ويرتدي ملابسه ويغادر المستشفى
في الصباح الباكر ليذهب إلى حبيبته التي لا يطيق الابتعاد عنها وتسعد الفتاة
برؤيته لكنها تتساءل عن سبب رفضه إجراء جراحة زرع القلب له فيجيبها
دهشاً للسؤال نفسه : لأنهم يريدون أن " يأخذوا " قلبي الذي يحبك ! .
وتضحك الفتاة بسعادة ةتحاول إقناعه بأن الإنسان إنما يحب بعقله وأفكاره
وأحاسيسه وليس بعضو معين من أعضاء جسمه ، لكنه يصر على أنه لن
يسمح لأحد بأن يأخذ منه قلبه الذي أحبها به ! . وتأمل الفتاة في أن تقنعه مع
الأيام بإجراء الجراحة الضرورية وتعلن للجميع حبها له وسعادتها به وتفرض
عليهم أن يعاملوه بما يستحقه شاب طيب وأمين مثله من احترام وتقدير .
وترسو سفينة الفتاة نهائيا في مرفأ الشاب الطيب الذي تتعجب لايمانه بخرافة
الحب بالقلب الذي لا يعدو أن يكون مضخة للدم رغم ثقافته المميزة وتصطحبه
معها في كل مكان . . ويبدوا واضحا للجميع أنها قد عرفت أخيرا كيف تختار
حياتها ومن تمنحه حبها وبلا تخفظ أو حسابات فلا يزيده ذلك إلا رغبة فيها وتمسكا بها .
وتصحبه ذات يوم إلى إحدى المباريات الرياضية فيجلس إلى جوارها فخورا
بوجوده معها ، وتنتهي المباراة ويغادران الملعب فتقود الفتاة سيارتها الصغيرة
ويجلس الشاب الطيب إلى جوارها يتحدث إليها بتلقائية الحبيبة وتضحك الفتاة
من قلبها طوال رحلة العودة بالسيارة وتراودها أحلام الاستقرار والأمان مع
هذا الشاب الطيب إلى نهاية العمر وتستريح إلى أنه سيظل يحبها بالقلب الجديد
كما يحبها الآن بقلبه المريض وأكثر ، وتستغرق الفتاة في خواطرها وتأملاتها
بعض الوقت ثم تلتفت إليه فتجده نائما إلى جوارها كالملاك وابتسامة خفيفة تشع
من ملامح وجهه الطيب الذي يتدلى على جانب صدره . وتصل السايرة إلى بيتها
فتدعو فتاها برفق للاستيقاظ لكي تقدمه لأمها وزوج أمها وشقيقها لكن الفتى لايزال
مستغرقا في نوم الملائكة فتضحك الفتاة لاستغراقه في النوم كالطفل البرئ ،
وتكرر عليه النداء عدة مرات بلا استجابة من جانبه فتهزه برفق وهي تغالب
الضحك فلا يستجيب . . فتهزه بشدة أكثر فإذا به نائم نومه الأبدي فلا تصرخ
ولا تولول وإنما توسد رأسه صدرها وتحيطه بذراعيها وتبكي في صمت . .
لقد رحل الفتى الطيب عن الدنيا في لحظة خاطفة سعيدا بأنه قد نال من السعادة
ما كان يحلم ببعض منه ، واحتفظ بقلبه الذي أحبها به فوشت ملامحه شبه الباسمة
بالارتياح والاستسلام وليس بالألم أو الخوف .
وتمت المراسم المعتادة في مثل هذه الظروف الحزينة ورجعت الفتاة مع صديقتها وهي تقول لها :
أخيرا عرفت من يستحق حبي . . لكن ها هو غاب عنب إلى الأبد ! . .
ثم تسترجع ذكرياته معها في مخيلتها فتبتسم للذكرى ابيسامة حزينة وتقول لصديقتها : لقد
كان كالملاك وعزائي الوحيد هو أنني قد أسعدته . . وسعدت به هذه الفترة القصيرة ! .
وتنتهي هذه القصة القصيرة التي نقلتها السينما الأمريكية وقدمتها في فيلم شاعري جميل
منذ عدة سنوات ، ويبقى السؤال المؤلم دائما :
- لماذا لا تمنح الحياة السعادة للإنسان في بعض الأحيان . . إلا وهو يسمع أناشيد الختام ؟ .
من كتاب ( خاتم في أصبع القلب )
للكاتب الكبير / عبد الوهاب مطاوع
رحمه الله عليه وعلى جميع موتى المسلمين