الاعجاز العلمى فى "وجعلنا الليل والنهار آيتين "-بقلم: الدكتور زغلول النجار
23-06-2010
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (سورة الإسراء الآية 12).
في هذه الآية الكريمة يذكرنا ربنا تبارك وتعالى بأنه قد جعل الليل والنهار آيتين من آياته الكونية المبهرة التي تدل علي طلاقة قدرته، وبالغ حكمته، وبديع صنعه في خلقه، فاختلاف هيئة كل من الليل والنهار في الظلمة والنور، وتعاقبهما علي وتيرة رتيبة منتظمة ليدل دلالة قاطعة علي أن لهما خالقاً قادرا عليما حكيما.
والآية في اللغة العلامة والجمع آي، وآيات والآية من كتاب الله جماعة حروف تكون كلمة أو مجموعة كلمات تبني منها الآية لتحمل دلالة معينة.
آراء المفسرين
يذكر عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد جعل من صفات الليل أنه مظلم، كما جعل من صفات النهار أنه منير، وربما كان ذلك هو آية كل منهما، وهذا الفهم دفع ببعض المفسرين إلي القول بأن من معاني قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}.. أي جعلنا الليل، وهو آية من آيات الله ـ مظلما، وجعلنا من صفاته تلك الظلمة.
وأن من معاني قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}... أي جعلنا الآية (التي هي النهار) منيرة تعين علي الإبصار فيها، من نحو قول العرب: أبصر النهار إذا أنار وصار بحالة يبصر فيها، ولكن المقابلة بين محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ربما تتحمل من المعاني ما هو فوق ذلك، مما يحتاج إلي توظيف العديد من الحقائق العلمية الحديثة من أجل حسن فهم دلالة تلك المقابلة.
فواضح نص الآية الكريمة أن الله تعالى قد محا آية الليل، وأبقي آية النهار مبصرة لكي يتيح الفرصة للخلق لابتغاء الفضل منه، والسعي علي كسب الرزق أثناء النهار، وللخلود إلي السكينة والراحة بالليل، وأن في هذا التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير وسيلة ميسرة لتحديد الزمن، ولتأريخ الأحداث، فبدون ذلك التتابع الرتيب لليل والنهار يتلاشي إحساس الإنسان بمرور الزمن، وتتوقف قدرته علي متابعة الأحداث والتأريخ لها.
ولذلك يمن علينا ربنا تبارك وتعالى في ختام هذه الآية الكريمة بأنه قد فصل لنا كل شيء في وحيه الخاتم القرآن الكريم الذي ليس من بعده وحي من الله، وليست من بعده أية رسالة ربانية، ولذلك جاء ذلك التفصيل الإلهي تفصيلا دقيقا واضحا لكل أمر من أمور الدين الذي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيه أية ضوابط صحيحة.
آيتا الليل والنهار
الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان من آيات الله في الخلق، تشهدان بدقة بناء الكون، وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كل من الأرض والشمس، والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية، والتعاقب الرتيب لليل والنهار، وما يصاحب ذلك كله من دقة وإحكام بالغين..!!
فنحن نعلم اليوم أن التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة علي الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة حتي يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة، وكميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف بيئاتها الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية من مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي، والأيض، وغيرها ويتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة المياه بين الأرض والسماء والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض كما يتم ضبط حركات كل من الأمواج المختلفة في البحار والمد والجزر، والرياح والسحاب، ونزول المطر بإذن الله.
ويتم تفتيت الصخور وتكون التربة بمختلف أنواعها ومنها الصالحة للإنبات، وغير الصالحة، وترسب الصخور ومنها القادرة علي خزن كل من الماء والنفط والغاز ومنها غير القادرة علي ذلك، وتركيز مختلف الثروات الأرضية، وغير ذلك من العمليات والظواهر التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للحياة.
وتعاقب الليل والنهار علي نصفي الأرض هو كذلك ضروري، لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة يحتاج إلي الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية فالإنسان - علي سبيل المثال - يحتاج إلي أن يسكن بالليل فيخلد إلي شيء من الراحة والعبادة والنوم مما يعينه علي استعادة نشاطه البدني والذهني والروحي، وعلي استرجاع راحته النفسية، واستجماع قواه البدنية حتي يتهيأ للعمل في النهار التالي وما يتطلبه ذلك من قيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
وقد ثبت بالتجارب العملية والدراسات المختبرية أن أفضل نوم الإنسان هو نومه بالليل، خاصة في ساعات الليل الأولي، وأن إطالة النوم بالنهار ضار بصحته لأنه يؤثر علي نشاط الدورة الدموية تأثيرا سلبيا، ويؤدي إلي شيء من التيبس في العضلات، والتراكم للدهون علي مختلف أجزاء الجسم، وإلي زيادة في الوزن، كما يؤدي إلي شيء من التوتر النفسي والقلق، وربما كان مرد ذلك إلي الحقيقة القرآنية التي مؤداها أن الله تعالى قد جعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشا.
وإلي الحقيقة الكونية التي مؤداها أن الانكماش الملحوظ في سمك طبقات الحماية في الغلاف الغازي للأرض ليلا، وتمددها نهارا يؤدي إلي زيادة قدراتها علي حماية الحياة الأرضية بالنهار عنها في الليل حين ترق طبقات الحماية الجوية تلك رقة شديدة قد تسمح لعدد من الأشعات الكونية بالنفاذ إلي الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وهي أشعات مهلكة مدمرة لمن يتعرض لها لمدد كافية.
ومن هنا كان ذلك الأمر القرآني بالاستخفاء في الليل والظهور في النهار ومن هنا أيضا كان أمره إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله تعالى من شر الليل إذا دخل بظلامه، وأن يلتجئ إلي الله ويعتصم بجنابه من أخطار ذلك فقال عز من قائل: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (سورة الفلق الآية 3).
فهذا الشر ليس مقصورا علي الظلمة وما يمكن أن يتعرض فيها المرء إلي مخاطر البشر، بل قد يمتد إلي مخاطر الكون التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
ثم إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير، يعين الإنسان علي إدراك حركة الزمن، وتأريخ الأحداث، وتحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، ولأداء جميع العبادات، وللوفاء بمختلف العهود والحقوق والمعاملات وغير ذلك من الأنشطة الإنسانية، فلو كان الزمن كله علي نسق واحد من ليل أو نهار ما استقامت الحياة وما استطاع الإنسان أن يميز من حياته ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وبالتالي لتوقفت الحياة، ولذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في ختام الآية: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.
ولذلك أيضا يمن علينا ربنا وهو تعالى صاحب الفضل والمنة بتبادل الليل والنهار في العديد من آيات القرآن الكريم، ومع إيماننا بذلك، وتسليمنا به يبرز التساؤل في الآية الكريمة التي نحن بصددها رقم 12 من سورة الإسراء عن مدلول آيتي الليل والنهار، وعن كيفية محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة؟..
في شرح معني هذه الآية الكريمة ذكر نفر من المفسرين أن آيتي الليل والنهار نيراهما، فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف محيت آية الليل، والقمر لا يزال قائما بدورانه حول الأرض ينير ليلها كلما ظهر؟.
فقد روي عن عبدالله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه قال: كان القمر يضئ كما تضئ الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، وعلي ذلك فمعني قول الحق تبارك وتعالى:فمحونا آية الليل هو السواد الذي في القمر أي انطفاء جذوته، وأضاف: أن مدلول وجعلنا الليل والنهار آيتين أي ليلا ونهارا، وكذلك خلقهم الله عز وجل.
وتبع ابن عباس في ذلك قتادة(يرحمه الله) الذي قال: كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
وفي الكلام إشارة دقيقة إلي الفارق الذي حدده القرآن الكريم في آيات عديدة بين ضوء الشمس ونور القمر، والذي لم يدركه العلماء إلا متأخرا بأن الأول ينطلق من نجم ملتهب شديد الحرارة، مضئ بذاته بينما الثاني ينتج عن انعكاس أشعة الشمس علي سطح القمر البارد المعتم.
وقال نفر آخر من المفسرين إن آية الليل هي ظلمته، كما أن آية النهار هي نوره ووضاءته، فالله تعالى جعل من الظلام آية لليل، كما جعل من النور آية للنهار، فيعرف كل منهما بأيته، أي بعلامته الدالة عليه، ومن هؤلاء المفسرين ابن جريج (يرحمه الله) الذي نقل عن عبدالله بن كثير (رحمة الله عليه) قوله: آيتا الليل والنهار هما ظلمة الليل، وسرف النهار.
وهنا يتبادر إلي الذهن السؤال التالي: كيف يستقيم هذا الفهم مع قول الحق (تبارك وتعالى): فمحونا آية الليل وظلمة الليل باقية مع بقاء نور النهار؟ وإذا كانت آية الليل هي ظلمته فكيف محيت تلك الظلمة وهي لا تزال