سنوات الغضب
وتأتى سنوات الغضب فى حياة الصحفي الكبير بعد أحداث 1967م وما أعقبها من وفاة عبد الناصر وظهور مطامع خلفائه فى الحكم وهم مراكز القوى كما أطلق عليهم أنور السادات وهم
سامى شرف وزير شئون رياسة الجمهورية
الفريق محمد فوزى وزير الحربية
اللواء شعراوى جمعه وزير الداخلية
على صبري رئيس اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى
محمد فائق وزير الاعلام
بمعنى أن مراكز القوى كانت تملك سلطة البلاد ومؤسساتها الكبري ولم يكن السادات يمتلك شيئا الا وجود محمد حسنين هيكل الى جواره .. وتأمل هيكل الوضع وقام باعداد الخطة لمواجهة الموقف العصيب .. وشيئا فشيئا بدأت الخطة باستمالة اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهورى .. والفريق محمد صادق رئيس الأركان بالقوات المسلحة .. وقامت الخطة على أساس متين وهو مقولة هيكل " يجب أن يكون الأمر أمام الشعب صراعا على الديمقراطية لا صراعا على السلطة "
ونجحت الخطة الى أبعد مدى وتم القاء القبض على مراكز القوى جميعا لينجح السادات فى الصعود لسدة الحكم على أكتاف هيكل
واستمرت العلاقة بين الاثنين على أحسن ما يكون وكان هيكل مستشار السادات الأمين وأحد القلائل والندرة الذين عرفوا بموعد حرب أكتوبر وشاركوا فى رسم خطته الاستراتيجية والاعلامية ..
ولم يدر بخلد هيكل قبل الحرب أن السادات كأول رئيس سياسي بالمفهوم الصحيح لمصر قد رسم لنفسه خطا مختلفا تمام الاختلاف عن سلفه .. وظهرت بوضوح بعد أكتوبر التى منحت السادات الثقة فبدأ الحركة فى اتجاه هدم صورة عبد الناصر وانتهاج الخط الأمريكى دون علم مستشاره وصديقه هيكل ..
وفوجئ هيكل بالأمر .. ورأى الهجوم الضارى والفضائح الأمنية والمهازل العسكرية التى حدثت أيام عبد الناصر كلها تظهر فى حملة شبه منظمة من المستحيل أن تتم دون سماح مسبق من السلطة فى دولة بوليسية ..
وقبل أن يفكر هيكل فى الرد .. فوجئ أيضا بقرار نقله من وظيفته كرئيس لمؤسسة وتحرير الأهرام .. لينتقل وفقا للقرار الجمهورى المفاجئ الى قصر عابدين مستشارا سياسيا لرئيس الجمهورية على درجة نائب رئيس وزراء ..
وكان رفض هيكل قاطعا ..
ومع القرار الغبي الذى اتخذه السادات بمنع هيكل من الكتابة بمصر .. أعلن هيكل رفضه على صفحات جريدة " الصنداى تايمز " البريطانية قائلا
" ان الرئيس السادات يستطيع أن يقول لى اخرج من الأهرام .. لكنه لا يستطيع أن يقول لى أين أذهب بعد ذلك .. هو اختار لى القصر الجمهورى .. وأنا اخترت بيتى وكتبي "
واتسعت الهوة بمراحل مع استمرار سياسة السادات فى قلب المائدة على رأس عبد الناصر وسياسته الخارجية اللصيقة بالولايات المتحدة .. ليعتكف هيكل ويتفرغ لكتبه التى كانت تنشر خارج مصر وتمنع من التداول فى وطنه ..
وبلغت الأزمة ذروتها مع قرارات سبتمبر 1981م والتى قام السادات باعتقال حوالى 2100 شخصية من كبار الشخصيات السياسية والدينية فى مصر وكان على رأسهم هيكل .. ومن ضمنهم عبد القادر حاتم رئيس الحكومة السابق والبابا شنوده وشيخ الأزهر وغيرهم
ووضح للجميع أن السادات قد غلبته عصبيته وتخلى عنه ذكاؤه اللامحدود ويكفيه فى ذلك اعتقال هيكل وحده .. مخزن الأسرار وقنبلة الأفكار ..
ومع اغتيال السادات .. كان أول قرار لرئيس الجمهورية الجديد حسنى مبارك قرار افراجه عن المعتقلين فى حوادث سبتمبر واستقبل صفوة شخصياتهم فى القصر الجمهورى ..
وبعد سنوات أربع .. تم رفع الحظر عن هيكل لتصدر كتبه فى مصر ويبدأ فى الرد على الهجوم الكاسح الذى استمر لعشر سنوات تقريبا بتحريض من السادات وقيادة الأخوين أمين بعد أن تم الافراج عن مصطفي أمين افراجا صحيا ضمن قرار الافراج عن العديد من جواسيس اسرائيل وأمريكا !!
وقد تعمد السادات الافراج عن مصطفي أمين بهذا الشكل حتى لا جرؤ على رفع عينه كما قال لهيكل قبيل قرار الافراج ..
وكانت أولى ضربات هيكل الصاعقة .. ضربته للسادات .. والتى صارت مثلا مشهودا لقوة ناب هيكل ومدى فداحة خطأ السادات باستعدائه
وهذا ما سأتناوله معكم فى رحلة الكتابة لهيكل
رحلة الكتابة
الكتابة عند هيكل فن راق .. وانجازات فكرية لا تقدر بثمن أبدا .. وله فلسفته الخاصة جدا فى الرواية التاريخية والسياسية ..
فهو العملاق الذى اذا تناول موضوعا ما .. لا يجرؤ غيره على الكتابة فى ذات الموضوع لما عرف عن هيكل من قدرات خارقة فى البحث والتقصي بالشكل الذى لا يدع مجالا لغيره فى الحديث
وكما سبق القول ..
من الممكن أن نختلف مع هيكل فى التحليل والرؤية لحدث معين .. لكننا لا نستطيع التشكيك مطلقا فى صحة الحدث ذاته ..
ولذلك فلا عجب أن هيكل بكنوزه التى يمتلئ بها عقله وذاكرته من وقائع الأحداث وأطنان الوثائق السرية التى لا تتوافر لجهاز مخابرات كامل .. لا عجب اذا أنه تبوأ مكانة كبري بين رواد السياسيين والمفكرين على مستوى العالم أجمع ..
ومن المعروف أن محمد حسنين هيكل يكتب مؤلفه بالانجليزية للطبعة الدولية وتتولى نشر أعماله أكبر دار نشر فى العالم وهى دار " هابر كولينز " بالولايات المتحدة الأمريكية .. والتى تملك حق توزيع كتبه بكل لغات العالم ..
وقبل عام 1982 م ..
كان هيكل يكتفي بكتابة المؤلف بطبعته الانجليزية ثم تصدر الطبعات فى دول العالم بلغات مختلفة مترجمة على يد متخصصين .. بما فى ذلك الطبعة العربية
الا أنه مع مقدم عام 1982 م وشروع هيكل فى كتابة قنبلته " خريف الغضب " ذلك الكتاب الذى تناول فيه قصة أحداث العصر فى مصر ونيران الغضب التى صاحبت عصر السادات للرد على هذا الأخير ,
توقف هيكل كثيرا أمام اسناد الترجمة لغيره خاصة للعربية .. فالموضوع الذى يتناوله الكتاب حساس للغاية وبالتالى اتخذ قراره بترجمة الكتاب الى طبعته العربية بنفسه وهو المنهج الذى اتخذه بعد ذلك فى جميع اصداراته بعد خريف الغضب
عيون كتاباته
كتابات هيكل متنوعة وبالغة الثراء بين المقالات والبحوث والكتب الا أننا سنتوقف عند عيون هذه الكتب التى تعد بحق التراث التاريخى السياسي للوطن العربي والشرق الأوسط مثل
(1) كتاب " ايران فوق بركان "
وهو الكتاب الذى صدر عقب ثورة محمد مصدق رئيس الوزراء الايرانى الذى اتخذ قرار تأميم صناعة البترول فى ايران لضرب الولايات المتحدة وكيفية فشل ثورة مصدق بعد تدخل الولايات المتحدة مباشرة لحماية رضا بهلوى رجلها الأثير فى المنطقة ..
(2) كتاب " مدافع آية الله "
وهو الكتاب الذى عالج ثورة الخمينى الناجحة فى ايران عام 1979 م وهو كتاب رهيب تعرض للتفاصيل الدقيقة فى الثورة التى قادها الامام الشيعى " آية الله الخمينى " من باريس ونجح فى الاطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوى واعلان الدولة الشيعية فى ايران وهى الوقائع التى تمثل تحليلا دقيقا لدوافع الثورة وكيفية نجاحها من المهجر .. والأهم من ذلك أنه يوضح بالاستدلات المنطقية كيف أن الدول العربية لا يمكن أن تسمح تركيبتها السياسية بمثل نجاح ثورة مماثلة لثورة الخمينى
(3) رباعية "حرب الثلاثين سنة "
وهى المراجع الأربعة التى تتناول تاريخ المنطقة العربية سياسيا فى الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى حرب أكتوبر .. حيث صدر الجزء الأول تحت عنوان " ملفات السويس " ويتناول فيه هيكل قصة حرب 1956م وتأميم قناة السويس مع التعرض للقلاقل السياسية التى ضربت الامبراطورية البريطانية اثر انسحاب " ونستون تشرشل " من الحكم بعد الحاح من رجال حزبه ليصعد لمقعد رياسة الحكومة " أنتونى ايدن " الذى كان يشغل منصب وزير الخارجية وهو رئيس الوزراء البريطانى الذى تحالف مع " جى موليه " رئيس الحكومة الفرنسية " و" دافيد بن جوريون " رئيس الحكومة الاسرائيلة ليخرج الى النور عدوان الثلاثي الغاشم فى حرب السويس .. أما الجزء الثانى والثالث وهما على التوالى كتاب " سنوات الغليان " وكتاب " الانفجار " فهما اللذان تناولا قصة حرب 1967م وفيهما من الحقائق والوثائق ما هو كفيل بقتل روح التفاؤل فى جميع شعوب الدول العربية مع المهازل التى كانت تحدث باسم العروبة أما الجزء الرابع والأخير فهو كتاب " السلاح والسياسة " والذى تناول فيه قصة حرب أكتوبر كاملة .. مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن كتاب الانفجار الذى انتهى عند حدوث واقعة النكسة 1967م لم يرو شيئا عن فترة الاستنزاف .. والجزء الرابع بدأ فعليا من يوم السادس من أكتوبر مباشرة ولم يكن هذا قصورا من هيكل بل منع تكرار لأنه تناول قصة حرب الاستنزاف واعادة بناء الجيش فى كتاب منفرد صدر عام 1975م بعنوان " الطريق الى رمضان "
(