التنظيم والإنضباط والرغبة والحب في حياة الإنسان
كلنا يحتاج إلى التنظيم والترتيب في نشاطاتنا اليومية وفي علاقاتنا . ولكن يجب على الإنسان أن يفهم الفرق ويرى الاختلاف بين خاصية الترتيب من جهة ، وبين القواعد أو الانضباط من جهة أخرى . إذ ينتج الترتيب عن فهمنا المباشر لأنفسنا – وليس تبعًا لفيلسوف ما أو لعالم نفسي . فنحن نكتشف الترتيب والنظام الخاص بنا عندما نتحرر من الشعور بالاضطرار والإكراه من كل جهد التزمنا به لتحصيل النظام وتطبيقه في مجال ما من حياتنا . يأتي الترتيب المنشود بشكل طبيعي محملاً بالاستقامة. إنه نظام بعيد عن النمطية ، وهو لا يشمل فقط العالم الخارجي الذي تحول إلى الفوضى بكليته ، بل يصل حتى عالمنا الداخلي إلى أعماق نفوسنا ، إلى حيث نحن مربكين وغير واضحين . لأنك إن اتبعت سواك ، ومهما كنت واسع الاطلاع فستكون عاجزًا عن فهم ذاتك .
لفهم ماهية النظام علينا البدء بفهم طبيعة علاقاتنا . فحياتنا بكاملها هي حركة ضمن علاقة ، فمهما شعر الفرد منا بأنه يعيش وحيدًا ، إلا أنه متصل دومًا بشيء ما أو بشخص ما ، بالماضي أو بتصور ما عن المستقبل . ولهذا فإن الحياة هي حركة ضمن علاقة ، وفي العلاقة هناك فوضى . لذلك يجب التمعن لنرى لماذا نعيش مثل هذه الفوضى في علاقاتنا – سواء كانت حميمة أو سطحية .
المتحدث لا يحاول أن يدفعكم إلى التفكير في اتجاه معين ، أو الضغط عليكم بأي وسيلة حذقة لإقناعكم . بل على العكس ، نحن نفكر معًا بمشكلاتنا الإنسانية لنستكشف ماهية علاقاتنا ببعضنا وما إذا كنا قادرين على ترتيب تلك العلاقات . ولكي نفهم المعنى الكامل لعلاقتنا ببعضنا ، سواء كنا قريبين من بعضنا أو بعيدين عن بعضنا ، علينا أن نبدأ بفهم سبب خلق الذهن للتصورات . إذ نمتلك جميعًا تصورات عن أنفسنا وعن الآخرين على حد سواء . لماذا يمتلك كل منا تصورًا فريدًا خاصًا يُعرِّف نفسه من خلاله ؟ هل التصور ضروري ؟ هل يمنح الإنسان إحساسًا بالأمان ؟ ألا تكرس التصورات الخاصة الانفصال بين البشر وتؤدي إليه بالضرورة ؟
لننظر مليًا إلى علاقتنا بالزوجة أو بالزوج أو بالصديق . انظروا بتمعن ولا تحاولوا تفادي النظر . لأنه علينا أن نستكشف معًا لماذا توجد لدى البشر حول العالم هذه القدرة الاستثنائية على خلق التصورات والرموز والأنماط . أترى لأننا نجد أمانًا كبيرًا في تلك الأنماط والرموز والتصورات ؟
إن راقبت نفسك فستجد أن لديك تصورًا عن نفسك ، تصور قد يكون متغطرسًا ومتكبرًا ، أو بالعكس . أو قد تكون ممن حصَّلوا الكثير من المعارف والخبرات ، وهذه تقود بشكل طبيعي إلى خلق تصورها عن الذات ، ألا وهي صورة الخبير . لماذا لدينا تصورات عن أنفسنا ؟ إن هذه التصورات تفرق الناس عن بعضهم ، لأنه إن نظرت إلى نفسك كسويسري أو كبريطاني أو كفرنسي أو كأية جنسية أخرى ، فإن تلك الصورة لا تشوه فقط رؤيتك للبشرية ، بل أيضًا تفصلك عن الآخرين . وأينما وجد الانفصال ووجدت الفرقة لا بد أن يوجد الصراع – كذلك الحال الذي نراه في كل مكان حول العالم : العرب ضد الاسرائيليين ، المسلمون ضد الهندوس ، والكنيسة المسيحية ضد الأخرى . كذلك فإن الفروقات القومية والاقتصادية هي نتاج لهذه التصورات والمفاهيم والأفكار . لماذا يتشبث الذهن بتلك التصورات ويتعلق بها ؟ هل يعود السبب إلى تربيتنا وثقافتنا التي ترى بأن أهمية الفرد تفوق كل شيء آخر ، كما ترى أن المجتمع شيء مختلف تمامًا عن الفرد ؟ هذا جزء من حضارتنا ، ومن ممارساتنا الدينية وخبراتنا اليومية . حين ينظر الفرد إلى نفسه كبريطاني أو كأميركي فإن هذا يمنحه شعورًا بالأمن . هذا شيء واضح جدًا . وعندما تتكون الصورة عن الذات تصبح هذه الصورة شبه دائمة ، لإنه خلف هذا التصور أو من خلاله ، يحاول الإنسان إيجاد الأمان والسكينة وشكل من أشكال المقاومة . لأنه حين يكون الفرد مرتبطًا بشكل محدد بشخص آخر ، وسواء كان هذا الارتباط جسديًا أو نفسيًا ، تكون هناك استجابة مبنية على تصور . فإذا كان الإنسان متزوجًا أو مرتبط عاطفيًا بشخص آخر تتشكل صورة ما في حياته اليومية ، وسواء كنت تعرف هذا الشخص منذ أسبوع أو منذ سنوات خلت فإن الصورة الذهنية عنه تتشكل خطوة خطوة ، حيث تتذكر أدق ردات فعله فتضيفها إلى الصورة وتخزنها في دماغك ، ما يجعل العلاقة – التي يمكن أن تكون مادية أو جنسية أو نفسية – علاقة بين تصورين ذهنيين هما تصورك الخاص عنه وتصور الشخص الآخر عنك .
لا يتفوه المتحدث الآن بأمور متطرفة أو غريبة أو مذهلة ، بل هو يشير فقط إلى وجود هذه التصورات ، إنها موجودة ، وبسببها لا نستطيع معرفة الآخر تمامًا . فحتى عندما تتزوج أو تربطك بأحدهم علاقة حميمية ، فإنك لن تعرفه حق المعرفة أبدًا ، بل أنت تعتقد أنك عرفته لأنك عشت معه طويلاً وبالتالي راكمت ذكريات تتعلق بحوادث مختلفة ومحفزات مختلفة ، بالإضافة إلى كل ما كان يحدث في الحياة اليومية ، كما اختبر هو استجاباته مشكلاً تصورات ذهنية خاصة به . إن جميع تلك التصورات تلعب دورًا فائق الأهمية في حياة كل إنسان . كما يبدو جليًا فإن القليل منا فقط من لا يحكمه التصور . والحرية الحقيقية هي الانعتاق من التصورات . لأن هذه الحرية ليست مبنية على تصورات تفرِّق . فإذا كان الإنسان ولد مع دين معين وفي بلد معين ، يكون خاضعًا لجميع إشراطات الحياة هناك ، كاشتراطات العرق أو الجماعة مع كلِّ خرافاتها ومعتقداتها الدينية ومبادئها وشعائرها – أي كامل بنيان هذا المجتمع – فإن الإنسان يعيش مع شبكة التصورات تلك ، وهذه تشكل شروطه . لهذا فإنه مهما تكلم عن الأخوَّة والوحدة والكلية فإن كلماته تبقى فارغة من أي معنى ، لأنها بلا معنى حقيقي ويومي . ولكن إذا حرر الإنسان نفسه من كل تلك الأحمال الثقيلة الخادعة ، من كل تلك الإشراطات والخرافات والترهات ، فإنه سيعطل عمل ذلك التصور . وأيضًا في العلاقة الخاصة حين يكون المرء متزوجًا أو يعيش مع أحدهم ، فهل من الممكن ألا يكون لديه تصور على الإطلاق – ألا تسجل ذاكرته أية حادثة سارة أو أليمة ، في تلك العلاقة الخاصة ، وألا يسجل الإهانة أو المديح ، التشجيع أو الخيبة ؟
مجموعة أملي الجنة الإسلامية
هل من الممكن ألا نسجل أي شيء على الإطلاق ؟ لأنه إن كان الدماغ مشغولاً باستمرار في تسجيل كل ما يحدث فإنه لن يكون حرًا على الإطلاق ليشعر بالسكينة والهدوء من خلال الصمت . لأنه إذا عملت ماكينة العقل دون توقف فإنها ترهق ذاتها وتبلى . هذا ما يحدث في علاقاتنا مع بعضنا – أيًا كان شكل العلاقة . وإذا ما كان هناك تسجيل متواصل لكل شيء فإن الدماغ سيذوي ، وهذه هي الشيخوخة .
وهكذا نصل السؤال التالي : هل من الممكن خلال علاقاتنا بكل انفعالاتها وحساسياتها وردود الأفعال التي تكتنفها ألا نتذكر؟ ونحن نتساءل هنا هل من الممكن عدم تسجيل الأحداث نفسيًا ، بل تسجيل الأشياء الضرورية جدًا فقط ؟ لا يخفى أن تسجيل الأمور شيء هام جدًا في بعض مجالات الحياة . فعلى سبيل المثال ، يجب على الفرد أن يسجل في ذاكرته كل ما هو ضروري لتعلم الرياضيات . وإذا ما كنتُ أريد أن أصبح مهندسًا ، فعلي أن أسجل في ذاكرتي كل الحسابات اللازمة للبناء وهكذا . وإذا كنت سأصبح طبيبًا عليَّ تذكر كل ما أنجز في ذاك المجال . وكي أقود سيارة عليَّ أن أسجل وأذكر ، ولكن هل من الضروري أن نذكر كل شيء في علاقاتنا سيكولوجيًا وداخليًا ؟ وهل يُسمى تذكر أحداث الماضي حبًا ؟ عندما أقول لزوجتي "أحبك"، هل تنبع كلمتي من تذكر كل ما مررنا به معًا – الأحداث والمعاناة والكفاح التي سُجلت جميعًا في الدماغ –، هل يُسمى تذكر كل هذا حبًا ؟
هل من الممكن أن تكون حرًا من تذكر ومن تسجيل الأحداث نفسيًا ؟ إن هذا ممكن فقط لدى تمتُّعنا بالانتباه التام . لأنك عندما تتمتع بالانتباه الكلِّي فإن ذاكرتك لا تسجل أي شيء .
لا أعرفُ لِمَ نحتاجُ إلى التفاسير، كما لا أعرف لِمَ لا تتمتع عقولنا بالسرعة الكافية لتلتقط وتفهم المعنى الكلي مباشرة . لماذا لا نرى هذا الشيء ، ولا نفهم حقيقة كل هذا ، ولم لا نترك تلك الحقيقة تفعل فعلها ، وبهذا تنظف اللوح المدوِّن في أدمغتنا لنحظى أخيرًا بدماغ لا يسجل أي شيء نفسيًا ؟. معظم البشر بليدون راكدون ، ويفضلون مواصلة الحياة بشخصياتهم النمطية القديمة ، بعاداتهم التفكيرية ذاتها ، ويرفضون كل ما هو جديد لأنهم يعتقدون أن العيش مع المألوف أفضل بالنسبة لهم من المجهول ، فهو يمدهم بالأمان – كما يعتقدون – ولذا يتابعون تكرار ما يقومون به ويعملون ويكافحون ضمن المحيط المألوف بالنسبة لهم . لكن هل بوسعنا الرصد من دون الخوض في آلية عمل الذاكرة وعملياتها ؟
ما هو الحب ؟ هذا سؤال معقد جدًا . فجميعنا نشعر بالحب تجاه شيء أو شخص ما ، أو تجاه أمتنا أو الله ، أو تجاه عمل ما أو هواية . لقد أسأنا استعمال كلمة الحب كثيرًا إلى درجة أننا لم نعد نعرف ما هو الحب حقًا ، ولذا يجب علينا إعادة اكتشافه من جديد . ليس الحب فكرة . إن محبة الله فكرة ومحبة رمز ما تبقى فكرة . لأنك عندما تذهب إلى الكنيسة وتركع مصليًا ، فإنك لا تصلي في الواقع سوى لشيء ابتدعته فكرًا . لهذا تمعن في ما يجري . أنت تعبد ما ابتدعه الفكر – وهذه حقيقة – ما يعني أنك تعبد ذاتك . قد يبدو هذا الكلام تدنيسًا لكنه حقيقي . وهذا ما يجري حول العالم . يخلق الفكرُ الرمزَ مع كل ما مرفقاته ، وبما أنك خلقته فإنك تقع في حبه ( بشكل رومانسي أو منطقي عقلاني ) وتصبح لا تتقبل سواه . إن كل البنى الدينية مبنية على هذه الحقيقة . تمعن في هذه المأساة . حيث يخلق الفكرُ الرايةَ كرمز لبلد ما ، ومن ثم يحارب الإنسانُ لأجلها ، ويقتل غيرَه لأجلها ، لتدمر أمتك الأرض في خضم تنافسها مع أمة أخرى ، لتتحول الراية إلى رمز لما تحبه . لقد عاش الإنسان ملايين السنين بهذه الطريقة ، وما زلنا لهذا السبب تدميرين عنيفين متوحشين ومتكالبين بشكل رهيب .
عندما نقول إننا نحب شخصًا ما ، فإن هذا الحب يتضمن الرغبة ، التصورات الممتعة لنشاطات الفكر المختلفة . لذلك فإن على الإنسان أن يفهم إن كان الحب مجرد رغبة أو متعة ، أو إن كان الحب يتضمن خوفًا من شيء ما ، فأنى حلَّ الخوف وجدت برفقته الكراهيةُ والحسد والقلق والهوس والرغبة في السيطرة . هناك جمال في العلاقة الحقيقية ، الكون كله حركة في العلاقة ، الكون نظام وعندما يمتلك الفرد نظامًا ذاتيًا نرى انعكاس ذلك جليًا في علاقاته وبالتالي احتمال أن يسود النظام في مجتمعنا . وإذا ما حاول الإنسان استقصاء طبيعة العلاقات سيجد أن وجود النظام هام جدًا ، ومن ذاك النظام ينبع الحب . ما هو الجمال ؟ نرى الثلج على الجبال في الصباح ، نظيفًا ومُشكِّلاً منظرًا خلابًا . ونرى تلك الشجرات المتوحدة التي تتخلل ذاك البياض . وإذا ما نظرنا إلى عالمنا نجد الآلاتِ الرائعةَ والحواسيبَ الفائقة بجمالها الخاص . ونرى الجمال في وجه ما وفي لوحة وفي قصيدة . ويبدو لنا أننا نلاحظ الجمال في كل مكان ، في المتاحف أو لدى حضور حفل موسيقي . ترى الجمال حولك في كل مكان. تراه في التلال والوديان ومياهها الجارية ، في خفقة جناح الطير وصوته مع باكورة الصباح . ولكن هل يوجد الجمال حولنا فقط ؟ أو أنه شيء يوجد فقط عندما تتلاشى أناي ؟ فعندما ترنو لتلك الجبال في صباح مشمس وتراها تبرق صفاءً تحت السماء الزرقاء ، تأخذك روعتها ويسحبك جلالها بعيدًا عن كل ذكرياتك الشخصية لوهلة ما . وهكذا يمسح الجمالُ الخارجي في العالم والروعة والسحر وجبروتُ الجبال كلَّ مشكلاتك ولو للحظة وتنسى نفسك . وهكذا يوجد الجمال عندما تغيب ذاتك من الوجود . إلا أننا لم نتحرر من أنفسنا ، فنحن أنانيون مستغرقون في ذواتنا وفي أهميتنا أو في مشكلاتنا ومعاناتنا وآلامنا ووحدتنا . وبسبب هذه العزلة اليائسة نسعى إلى التماهي مع شيء ما ونتعلق بفكرة ما ، بمعتقد أو بشخص ، وخصوصًا بشخص ما . ولدى تبعيتنا له تولد كل مشاكلنا . وأينما حلَّت التبعية والاتكال يولد الخوف . فالفساد يبدأ عندما تتعلق بأي شيء .
الرغبة هي الدافع الأقوى والأكثر حيوية في حياتنا . ونحن نتحدث هنا عن الرغبة بحد ذاتها وليس عن الرغبة في شيء محدد . لقد قالت كل الديانات : إنك إذا ما أردت خدمة الإله فإنه عليك أن تتخلص من نير الرغبة ، وأن تدمرها وتتحكم بها . كل الديانات قالت : استبدل رغبتك بتصور من نسج خيالك –استبدل ما هو حقيقي بالتصور .
لكن الحقيقي هو الرغبة . ويتصورون أن الإنسان قادر على مقاومتها والتغلب عليها باستبدالها بشيء آخر ، أو بأن يسلِّم نفسه لمن يعتقده معلمًا أو مخلِّصًا ، وهذا ما يعيدنا إلى نشاط فكري آخر . هذا هو نمط كل التفكير الديني السائد في العالم . لذلك يجب على الإنسان أن يفهم كليًا ماهية الرغبة ، وهي ليست الحب بكل وضوح ، كما أنها ليست التعاطف ولا الحنو . وعندما يفتقد الحب والحنان يغدو التأمل خاليًا من المعنى ، فللحب وللتعاطف ذكاؤهما الخاص البعيد كل البعد عن الفكر المخاتل .