الرياضيات لا تنــاســـــــــب النـسـاء!
أول امرأة في التاريخ عُرفت باهتمامها بالبحث الرياضي كانت ثيانو Theano في القرن السادس قبل الميلاد، التي كانت واحدة من تلاميذ مدرسة فيثاغورس، وقيل إنها كانت من أبرع تلاميذه في الهندسة والأعداد فتزوجها. وكان فيثاغورس يعرف باسم الفيلسوف النسوي لأنه كان يسمح في حماس بوجود نساء باحثات في جماعته التي كانت شبه علمية، شبه دينية، وثيانو كانت واحدة من أربع وعشرين امرأة في هذه الأخوة الفيثاغورية.
وفي القرون التالية كان أمثال سقراط وأفلاطون يدعون بعض النساء إلي مدارسهم، ولكن لم تبرز امرأة في البحث الرياضي إلا في القرن الرابع بعد الميلاد عندما استطاعت هيباتيا Hypatia أن تؤسس مدرسة بحثية في الرياضيات بمدرسة الإسكندرية، وكان أبوها أستاذًا للرياضيات بالإسكندرية كذلك، وبلغت شهرتها حدًا جعل العديد من الباحثين يكتبون إليها عن المشاكل التي تواجههم في البحث الرياضي فكانت قادرة دائمًا علي أن تعطيهم النصيحة الصحيحة.
لكن تفرغها للبحث الرياضي وإخلاصها للعقلانية الفكرية أدي في النهاية إلي سقوطها. فبطريرك الإسكندرية (سيرل) بدأ في اضطهاد الفلاسفة والرياضيين باعتبار أن عملهم هذا خروج علي تعاليم الكنيسة واتهمهم بالإلحاد والزندقة.
وفي يوم كئيب انتزعت هيباتيا من مركبتها علي يد الرعاع وجُردت من ملابسها ثم جروها إلي الكنيسة وقُتلت بأيدي القسس ومُزقت أجزاؤها ثم أودعت في النار.
بعد مقتل هيباتيا دخلت الرياضيات مرحلة ركود طويلة حتي عصر النهضة الأوروبية عندما بدأ يظهر اسم امرأة أخري هي ماريا أجنيس Maria Agnasi من ميلانو (إيطاليا) عام 1718، ومثل هيباتيا كان والدها أستاذًا للرياضيات، واشتهرت ماريا بقدرتها الفائقة خصوصًا في المنحنيات ومماساتها. وعلي الرغم من اعتراف الرياضيين في أوروبا بقدراتها إلا أن الأكاديمية الفرنسية رفضت أن تعطيها وظيفة بحثية، وهذا التمييز الرسمي ضد المرأة في البحث العلمي استمر في واقع الأمر حتي القرن العشرين.
فالتاريخ يذكر لنا حالة إيمي نوثر Emmy Nother التي قال عنها أينشتين أنها أعظم عبقرية نسائية ظهرت منذ بدء التعليم الجامعي للفتيات، ومع ذلك رفضت جامعة جوتنجن (ألمانيا) تعيينها في وظيفة محاضر، وكانت حجة مجلس الجامعة ـ الذي رفض تعيينها كما يلي: «كيف نسمح أن تصبح امرأة مساعدة أستاذ؛ ماذا سيقول جنودنا عندما يعودون من الجبهة ويكتشفون أن عليهم الدراسة تحت أقدام امرأة؟».
كان دافيد هلبرت David Hilbert أستاذًا آنذاك في جامعة جوتنجن، وهو واحد من أعظم الرياضيين الذين عرفهم التاريخ، وقد أجاب علي هذه الاعتراضات بقوله: «لا أري أن جنس المتقدم للوظيفة هو حجة ضد قبوله، فقبل كل شيء نحن في مجلس جامعة لا في حمَّام» لكن هلبرت كان في صف الأقلية بالمجلس.
علي أن من أغرب الأشياء تاريخياً أن فرنسا كانت صاحبة أكبر موقف شوفيني ضد المرأة، وكان الاعتقاد السائد أن الرياضيات لا تناسب النساء وهي فوق قدراتهن الذهنية، وعلي الرغم من أن صالونات باريس طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت مملوءة بالرياضيين الذين لعبوا دورًا حاسماً في تقدم البحث الرياضي أمثال كوشي Caushy ولاجرانج Lagrange فإن امرأة فرنسية واحدة استطاعت أن تفلت من قيود المجتمع الفرنسي وشوفينيته وأن تلجأ إلي حيل عديدة لإثبات وجودها كباحثة نابهة في الرياضيات.
تلك هي صوفي جرمان Sophie Germain، التي لم تكن ابنة أستاذ للرياضيات، بل ابنة تاجر، وقد عاصرت صوفي أيام الثورة الفرنسية وعانت من بعضها وإن كانت لا تنتمي إلي الأرستقراطية الفرنسية.
وقد بدأت قراءتها الرياضية في الكتب المتاحة أمامها فلم تعجب بها، ثم وقع في يدها كتاب عن تاريخ الرياضيات كتب تفصيلاً عن أرشميدس، وكيف أنه لقي مصرعه علي يد جندي روماني بينما كان مستغرقًا في بحث أحد المنحنيات الهندسية علي الرمال، فلما سأله الجندي عن هويته لم يرد أرشميدس فأعمل حربته في جسده، وهكذا مات عالم رياضي عظيم ميتة شنيعة.
أعجبت صوفي بأرشميدس وأعماله ثم بدأت تعلم نفسها مبادئ نظرية الأعداد وحساب التفاضل والتكامل، لكن أهلها انزعجوا من انكبابها علي الدراسة مستعينة بالشموع حتي ساعة متأخرة من الليل. وبدأ والدها يصادر الشموع التي لديها حتي يرغمها علي النوم، لكنها لم تتوقف واستعانت بشموع أخري حتي اضطر أهلها إلي قبول حياتها هذه، بل لقد موَّل والدها بعض بحوثها.
وفي عام 1794 افتتحت مدرسة البوليتكنيك Ecole Polytechnique التي أنشئت كأكاديمية لتدريب العلماء في الرياضيات والمواد الأخري تدريبًا ممتازًا.. وخطر في ذهن صوفي التقدم لهذه المدرسة التي هي فرصتها الذهبية، لكنها كانت تخشي شوفينية رجال الأكاديمية ضد النساء. فلجأت إلي حيلة التقدم للأكاديمية باسم رجل سمته هي أنطوان أوجست لابلان August Leblanc، ولم تدر المدرسة أن مسيو لابلان هذا ليس إلا امرأة.. وكانت تحصل علي المحاضرات مطبوعة وتقوم بحل المسائل المطلوبة وتعيدها إلي المدرسة. حتي وقع حادث لم يكن هناك مفر بعده من الكشف عن الحقيقة.
فقد أعجب الأستاذ العظيم لاجرانج ـ عالم الرياضيات والأستاذ بالمدرسة ـ بحلول المسائل التي تأتي من عند مسيو«لابلان» فأرسل يطلب حضوره لمقابلته، ودهش بالغ الدهشة عندما اكتشف أن مسيو لابلان هذا ليس غير السيدة صوفي جرمان فاحتفي بها واحتضنها كباحثة.
علي أن أعظم ما أنجزته صوفي جرمان في البحث الرياضي هو معالجة نظرية فرمات الأخيرة Fermat's last theorm التي لم تحل حلاً عامًا ونهائياً إلا عام 1992 علي يد الرياضي البريطاني أندرو وايلز الأستاذ بجامعة برنستون.
إن فرمات رياضي فرنسي كبير له بحوث عظيمة في علم الاحتمال وفي نظرية الأعداد (القرن السابع عشر) وقد وقع في يده كتاب ديوفاتيس، أحد معلمي مدرسة الإسكندرية الكبار (القرن الثالث بعد الميلاد) في الجبر وكان اسم الكتاب (الحساب) Arithmatica. وفي هذا الكتاب يتساءل ديوفاتيس إن كان هناك حل بأعداد صحيحة موجبة للمعادلة:
س ن + ص ن = ع ن (1)
حيث ن عدد صحيح معروف، س، ص، ع مجاهيل
إذا كانت ن =2 فإن الحل معروف منذ فيثاغورس، بل الحقيقة أن هناك ألوفًا من الحلول لها، لكن هل هناك حلول بأعداد صحيحة موجبة إذا كانت (ن) أكبر من 2، ثلاثة مثلاً أو أربعة.