محاكمة هنرى كيسينجر
عبدالعظيم أنيس
مؤلف هذا الكتاب صحفى أمريكى يعترف أنه خصم سياسى لهنرى كيسنجر، وهو يتعرض بالوثائق للجرائم التى تشكل أساسًا لإدانة كيسنجر قانونيا فى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية بما فى ذلك جرائم التآمر للقتل والتعذ يب. ولذلك فإنه لا يتعرض لأحداث ومواد تسيء إلى كيسنجر وإن كانت لا تخضع لمعيار جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية وفق القوانين الدولية التى تطبق اليوم.
ومن أمثـلة هذا النـوع الأخير قيامه بتجنيد الأكراد العراقيين وخيانتهم بعد ذلك. فهو الذى شجعهم على النهوض بالسلاح ضد صدام حسين فى الفترة 1974-1975 ثم تخـلى عنهم وعرَّضهم للإبادة عندما قام صدام حسين بإبرام اتفاقه المشهور مع شاه إيران.
هذا المثال يقع فى خانة السياسة الشريرة وإن لم يمثل مخالفة لقانون معروف. وبالمثل فإن قيام كيسنجر بالتستر السياسى والدبلوماسى والعسكرى على سياسة الأبرتهايد فى جنوب أفريقيا وسعيه لزعزعة استقرار أنجولا ونشاطاته الأخرى فى أمريكا الوسطى فى أوائل الثمانينيات مع أوليفر نورث لن يتعرض لها الكتاب.
إن مؤلف الكتاب يقصر اهتماماته على الجرائم الواضحة والتى يمكن ـ بل يجب ـ أن توضع تحت وطأة المحاكمة. وهذه الجرائم تشمل على وجه التحديد علي:
1ـ القتل الجماعى للمدنيين فى الهند الصينية.
2ـ التآمر المتعمد فى القتل الجماعي، ثم فى الاغتيال فى بنجلاديش.
3ـ التخطيط لمقتل "قائد عسكرى فى دولة ديمقراطية ـ شيلى ـ ليست فى حرب مع أمريكا.
4ـ التدخل شخصيا فى خطة لقتل رئيس دولة قبرص (المطران مكاريوس).
5ـ التحريض والتمكين من القتل الجماعى فى تيمور الشرقية.
6ـ الاشتراك شخصيا فى خطة قتل صحفى يونانى يعيش فى واشنطن.
وربما كانت هناك جرائم أخرى لم تعرف بسبب حرق أدلتها.
إننا نعيش اليوم فى العصر الذى لم تعد فيه "حصانة السيادة" لحاكم أى بلد أمرًا مقبولاً. فالحكم على بينوشيه "دكتاتور شيلى السابق" فى لندن والنشاط الرائع لقضاة إسبانيا فى هذا الصدد وأحكام المحكمة الدولية فى لاهاى... كل ذلك قد هدم القناع الذى كانت ترتكب الجرائم تحته باسم "حصانة رئيس الدولة".
وبالتالى فلم يعد هناك سبب يمنع من صدور أمر قضائى بمحاكمة هنرى كيسنجر فى الجرائم التى سلف ذكرها. وثمة أسباب تجعل المؤلف يعتقد أن كيسنجر قد فهم هذا التحول الحاسم فى القانون حتى ولو كان العديدون من القادة لم يدركوا ذلك.
إن كثيرين من أعوان كيسنجر ـ فى فترة قيادته فى السلطة ـ موجودون الآن فى السجن، وبعضهم نال عقابه وتم فضحه. ولم يبق إلا كيسنجر دون عقاب. فباسم الألوف من الضحايا ـ المعروفين والمجهولين ـ ألم يأن الأوان لأن تأخذ العدالة مجراها فيما يتعلق بكيسنجر؟
ثمة دلائل على أن كيسنجر يخشى بالفعل أن تمتد إليه يد العدالة. فالمؤلف يقول إن لديه تسجيلاً صوتيا لحديث تليفونى دار بين كيسنجر ومايكل كوردا "صاحب دار نشر أمريكية" فى نيويورك فى 2 ديسمبر 1998. وقد بدأ الموضوع عندما دق جرس التليفون فى مكتب كوردا وجاءت رسالة تطلب منه الاتصال بالدكتور هنرى كيسنجر على وجه السرعة.
ورفع كوردا سماعة التليفون وطلب من سكرتيرته أن تطلب 7597919 (مكتب شركة هنرى كيسنجر وشركاه) ثم قال وسط ضحك الحاضرين فى مكتبه "الرقم فى الحقيقة كان يجب أن يكون 1800 كمبوديا أو 1800 ضرب كمبوديا".
وبعد برهة قصيرة يسمع صوت كوردا وهو يقول "هنرى.. هاى كيف أنت؟ أنت تحصل على صيت واسع هذه الأيام فى صحيفة نيويورك تايمز وإن كان ليس الصيت الذى تحبه... أعتقد مثلك أنه من المشكوك فيه أن تقول الإدارة نعم وأن تنشر هذه الأوراق... طبعًا لا... لا أعتقد أن هناك مشكلة حول ذلك حتى ولو كان الأمر غير مريح... هذا قاض إسبانى يناشد محكمة إنجليزية مقاضاة رئيس دولة شيلى... إسبانيا ليس لها سلطة الحكم على أحداث وقعت فى شيلى على أية حال... إنه بالمطلق كلام فارغ...".
ويستطيع أى إنسان أن يحكم عند سماع هذا الشريط على بعض الأشياء الخاصة بهنرى كيسنجر وأولها وأهمها حالة الرعب لديه عند سماع نبأ القبض على دكتاتور، وأيا كانت تفاصيل حديثه مع كوردا فإن الكلمة المفتاح فى هذا الحديث هى "المساءلة القانونية".
فما الذى كانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرته ذلك الصباح وأشار إليه كوردا فى حديثه التليفونى مع كيسنجر؟
إنه مقال بقلم محررها لشئون الأمن القومى تيم وينر تحت عنوان "الولايات المتحدة سوف تنشر ملفات الجرائم تحت حكم بينوشيه" ويقول المقال:
"فى مواجهة سياسية ودبلوماسية حاولت تجنبها قررت الولايات المتحدة أن ترفع الحظر عن بعض الوثائق السرية حول الاغتيالات والتعذيب أثناء حكم الدكتاتور بينوشيه فى شيلى..." وقرار رفع الحظر عن هذه الوثائق هو أول إشارة لاستعداد الولايات المتحدة للتعاون فى القضية ضد بينوشيه. والمسئولون فى إدارة كلينتون يعتقدون أن فوائد المكاشفة فى شئون حقوق الإنسان تجب المخاطر على الأمن القومى فى هذه المسألة بالذات"... وبينما أيد المسئولون فى حكومات أوروبا تقديم بينوشيه للمحاكمة التزمت الولايات المتحدة الصمت تعبيرًا عن شكوكها فى سلطة المحاكم الإسبانية، وعن قلقها حول مغزى هذا بالنسبة لمسئولين أمريكيين قد توجه إليهم أدلة الاتهام فى بلاد أجنبية".
وكما توضح الوثائق الأمريكية التى أفرج عنها فقد أيد الرئيس نيكسون وهنرى كيسنجر (مستشاره لشئون الأمن القومى ووزير خارجيته فيما بعد) انقلابًا يمينيا فى شيلى فى أوائل السبعينيات. لكن كثيرًا من أفعال الولايات المتحدة خلال انقلاب 1973 وما فعله المسئولون الأمريكيون وأجهزة المخابرات مع حكومة بينوشيه مازال سريا لم يفرج عنه. والملفات السرية عن نظام بينوشيه الموجودة لدى أجهزة المخابرات الأ مريكية المختلفة والمكتبات الرئاسية لجيرالد فورد وجيمى كارتر مازالت فى الكتمان.
ووفق بيانات وزارة الخارجية فإن هذه الملفات تحتوى على سجل بتاريخ العدوان على حقوق الإنسان والإرهاب الدولي، ولدى المخابرات الأمريكية ملفات عن الاغتيالات التى قام بها النظام والبوليس السرى فى شيلي، وعن محاولات شيلى لتشكيل كتيبة عسكرية ذات توجه يمينى لأعمال القتل، كما تحتوى مكتبة فورد على الملفات السرية الخاصة بشيلى التى لم يسمح بنشرها حتى اليوم.