فاة أبي طالب وأم المؤمنين خديجة
التاريخ الهجري 10 من النبوة
ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: (أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنـه)، فـنزلت: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) [التوبة:113] ونزلت: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) [القصص: 56]. ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقى على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال: (لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه) وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام ـ على اختلاف القولين ـ توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنى حين كذبني الناس، وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدها وحرم ولد غيرها) وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، هـذه خديجة قـد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. تراكم الأحزان وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه. فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه، أو يؤووه وينصـروه على قومــه، فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر ناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومـه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره. قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: (لا تبكى يابنية، فإن الله مانع أباك). قال: ويقول بين ذلك: (ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب). ولأجل توالى مثل هذه الآلام في هذا العام سمى بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ.