برغم أن لا أحد يعرف على وجه الدقة متى بدأت سياحة العلاج بالردم في الرمال الساخنة داخل واحة سيوة (600 كم غرب القاهرة)، إلا ان بعض الأدبيات ترجعها إلى عصور الفراعنة، كما يشير البعض إلى أن ملكة مصر الشهيرة كليوباترا كانت تلوذ بهذه الرمال كي تجدد طاقة الحياة في جسدها. يبدأ طقس برنامج الردم تحت وهج الشمس اللافحة بالحصول على شهادة من المستشفى المركزي بالواحة النائية لتحديد ما إذا كان المريض المطلوب دفن جسده حتى العنق غير مصاب بضغط الدم أو القلب أو غيرها من الأمراض التي تتعارض مع تجربة الردم القاسية. محمد بو حوسين التاجر بمدينة مرسى مطروح، وهي الأقرب لواحة سيوة المجللة بالنخيل، يُعتبر من بين مئات من عرب وأجانب يفدون إلى الواحة مرة كل سنة لردم أجسادهم في القيظ والرمال الملتهبة بنار الشمس، بغية ما يعتقدون إنه علاج لازم لسلامة أبدانهم.. إلا إن المسؤولين المحليين يقولون ردا على أسئلة باحثين ومندهشين من قصة العلاج بالردم، إنها «عملية عشوائية غير مقننة.. لم نحصل على أي دراسات تفيد أهميتها لكن الناس يتجاوبون معها.. الغريب أن الكثير من الأجانب يخضعون أنفسهم لعملية الردم أيضا».
واعتاد بو حوسين التوجه كل سنة إلى الواحة والتصبب عرقا تحت رمال جبلها الشهير المعروف باسم الدكرور، وقال إنه في كل مرة يعود فيها من هناك يشعر بتراجع آلام المفاصل وبتجدد نشاطه وحيويته. ولهذا الرجل البالغ من العمر (61 )عاما قصة مع أول مرة يُعالج فيها بالردم بدأت بإصابته بالحمى الشديدة بسبب مخالفته أوامر المعالج الشعبي، وهي أوامر صارمة تتعلق بكل حركات وأكلات وشراب المريض في أيام الردم، والأيام التي تليها أيضا.. «حين جئت للمرة الأولى لم أنفِّذ التعليمات بحذافيرها، وغافلت المعالج في اليوم الأخير، وشربت مقدار نصف كوب من الماء المثلج وأنا في طريق العودة، كانت روحي فيه، فكدت أموت». إبراهيم، وهو أحد مساعدي المعالجين بالردم في واحة سيوة، قال إنه يستقبل مع زملائه المرضى الذين غالبا ما يكونون مجموعة تتراوح بين ثلاثة أو خمسة من الأصدقاء أو الأقارب القادمين من مكان بعيد، سواء من داخل مصر أو خارجها.. وأحيانا يكون شخصا واحدا لا غير. وأضاف إبراهيم: أذهب مع المريض لكي يُعرض على الكشف الطبي بمستشفى الواحة.. لا بد أن نتأكد من أنه خال من الأمراض التي لها علاقة بالدورة الدموية.. من الضروري ان يعطى ورقة من الطبيب تفيد بأنه لا يعاني من مشاكل يمكن أن تسبب له مضاعفات لو تعرض للردم والحرارة العالية».
ويبدأ العلاج ظهر اليوم التالي للكشف الطبي، حيث يكون مساعدو المعالج، قد حفروا بالمعاول حفرة في الرمال المختلط لونها بالأصفر والأحمر، بحيث تكون الحفرة مناسبة لجسد المريض، ويكون المساعدون قد خصصوا له أيضا الخيمة التي سيُنقل إليها بعد كل «ردمة»، وأمْلَوُا عليه التعليمات التي تسبق يوم الردم، وأهمها: عدم تناول أي أطعمة أو مشروبات في الفترة التي تسبق دخوله الحفرة. وفي أيام الزحام، التي تكون عادة في صيف وخريف كل سنة، يتكاثر الحفر وسط رمال جبل الدكرور. وقال إبراهيم: نترك الحفرة المخصصة للمريض من الصباح الباكر حتى الساعة الثانية ظهرا لتكون درجة الحرارة قد وصلت إلى أوجها، وسخَّنت الرمال إلى أقصى درجة، والتي تصل أحيانا إلى أكثر من 50 درجة مئوية. وبعد ذلك، أوضح إبراهيم، أنه وزملاءه، وهم اثنان وأحيانا ثلاثة، تحت إشراف المعالج، يضعون المريض، بعد أن يخلع جميع ملابسه، داخل الحفرة، ويهيلون على جسده الرمال التي لا تحتمل من شدة لهيبها. إبراهيم أشار قائلا: «يتحمل بعض المرضى المكوث في الحفرة عشرين دقيقة، وبعضهم لا يطيقها أكثر من ثلاث أو أربع دقائق. والنساء دائما هنَّ الأقل احتمالا، حيث يقوم على خدمتهن سيدات سيويات من أقارب المعالج ويتكفلن بكل شيء من أول الردم والجلوس في الخيمة حتى التدليك والمبيت في نُزل خاص بالنساء». ويتدخل المساعدون لإخراج المريض من حفرته قبل أن تتفاقم حالته، ويريحونه داخل الخيمة المُعدة له سلفا، فوق الرمال الساخنة وتحت الشمس اللافحة أيضاً حيث يتم إحكام غلقها عليه، وتركه هناك لمدة حوالي ثلاث ساعات. ومن التعليمات الصارمة الحيلولة دون تعرض المريض لأي تيار هواء، أو تقديم أي سوائل باردة له.. قال إبراهيم «نقدم له مشروب الحلبة الدافئ، وبعد ذلك ندثره بالأغطية ونعود به إلى غرفة المبيت التي تظل مغلقة عليه بينما يقوم أحدنا بتدليك جسده بزيت الزيتون الدافئ».
أما الوجبة الرئيسية في مثل هذا اليوم القاسي فتكون بعد غروب الشمس، ويمكن للمريض عندها تناول حساء الخضراوات الدافئ ونصف دجاجة.. ويخلد للنوم العميق».
في اليوم الثاني لبرنامج الردم يحصل المريض في حوالي الساعة السابعة صباحا على وجبة إفطار من نوع خاص، عبارة عن عصير النخلة (يسمى في بعض البلدان: اللاقبي، واللاقمي، والجُمَّار، وقلب النخل)، ولونه أبيض وله مذاق حلو.
ويتناول المريض آخر وجبة له قبل أن يواري جسده مجددا في الحفرة، أي بحلول الساعة الحادية عشرة صباحا، مكونة من اللبن الرايب مع حبات من التمر. ولا يقرب الشراب إلا دافئا بعد أن يخرج من الحفرة إلى الخيمة، أما الطعام فلا يتذوقه إلا حين يتم نقله إلى غرفة المبيت مع الغروب.
«شرب أي شيء بارد ممنوع.. التعرض للتيارات الهوائية ممنوع.. الاستحمام طيلة مدة العلاج ممنوع، وكذلك ممنوع الاستحمام خلال الايام العشرين بعد لانتهاء مدة العلاج.. وأيضا ممنوع تخفيف الملابس حتى يستقر جسم المريض.. كما يُفضل عدم مغادرته لواحة سيوة مباشرة بعد الردم، بل يمكث فيها مدة لا تقل عن ثلاثة أيام». ويشدد المعالجون على أن مثل هذه التعليمات الصارمة التي يُملُونها على زوارهم من راغبي الردم في الرمال الساخنة تعتبر شديدة الأهمية، وغير قابلة للنقاش أو استثناء أي بند من بنودها.
«المرضى الذين يطلبون العلاج بالردم هم غالبا مرضى الروماتيزم والروماتويد وآلام المفاصل وفقرات الظهر وكذلك المرضى بالنقرس ومرضى السمنة والمصابون بنزلات البرد المتكررة».. قال الباحث في الفلكلور الشعبي المصري، خالد حمد شعيب، وهو من أبناء محافظة مطروح التي تتبعها سيوة إداريا، وهو أيضاً ممَّن أمضوا فترات طويلة في دراسة ظاهرة العلاج بالردم في تلك الواحة، وأعدَّ حولها أبحاثا مطولة. «الطريف أن المعالجين، مثل المعالج سيد هارون وغيره في سيوة، لا يتقاضون أجرا يذكر لقاء عملهم.. عملية المعالجة لا تزيد عن كونها حُبّا وتقربا لله، في الأساس، كما توارثها المعالجون السيويون من أسلافهم»، أوضح الباحث حمد خالد، وأضاف: «كان المعالجون الأوائل الذين يتذكرهم الجيل الحالي (آخرهم توفي عام 2001) يتقاضون من 10 إلى 20 جنيها في اليوم (أي من دولارين إلى أربعة دولارات) متضمنة علاج المريض وتدليكه بزيت الزيتون الخام ومتابعته والكشف الطبي الرسمي عليه والإقامة والوجبات الغذائية الثلاث.. المبلغ زاد إلى حوالي 50 جنيها الآن، لكن مع ذلك يظل هذا المبلغ في الحقيقة شيئاً رمزياً لا يذكر، إن قيمته في المدينة تقل عن ثمن 3 شطائر هامبورغر، كما إن بعض المعالجين لا يتقاضون أية أموال نقدية».
قال حمد: «اكتشفتُ من خلال ما قمتُ به من دراسات أن المعالج يصل به الأمر أحيانا للاكتفاء بتبادل الهدايا مع المرضى الذين يفدون إليه.. تحدُثُ بين المعالج ومرضاه علاقة ودّ، فحين يأتي الزوار الى سيوة في موسم العلاج بالردم يحضرون معهم هدايا للمعالج ولأسرته أيضا، وهو يردُّ عليهم، بعد انتهاء مدة العلاج، بهدايا من مزارع الزيتون والنخيل.. يعني من زيتون وزيت زيتون وتمر وأحيانا ملابس سيوية تقليدية..هدايا بسيطة لكنها معبِّرة».
واللافت أن المعالجين لا يتخذون من عملية الردم مهنة أساسية لهم، فالمهنة موسمية ومؤقتة، كما انه غير مصرح بها رسميا، على الرغم من أن تاريخ ممارستها فعليا في الواحة يرجع لمنتصف السبعينات من القرن الماضي.
لكن هل يمكن أن يتحول العلاج بالردم إلى نوع من أنواع السياحة العلاجية المقننة، بدلا من الوضع الحالي الذي تشوبه الكثير من البدائية والعشوائية.. أوضح الباحث حمد في رده على أسئلة «الشرق الأوسط» قائلاً إنه كانت هناك محاولة من وزارة السياحة المصرية لعمل مصحة عالمية في سيوة في موقع الردم الحالي عند الكثبان الرملية لجبل الدكرور، مشيراً إلى أن هذه الفكرة التي بزغت ثم غربت واختفت في تسعينات القرن الماضي تحمَّس لها أطباء متخصصون في الأمراض الروماتيزمية والعظام، وأن المشروع توقف بسبب الخلاف على تصميم المبنى الذي سيكون عليه المشفى السياحي العلاجي، وكذلك الخلاف حول المواد التي سيبنى منها، إذ دخل المشروع برمته في دوامة التأجيل منذ ذلك الوقت حتى الآن.