ماهو "اللاشئ"؟ يمكننا تعريف اللاشئ بأنه الشئ الغير موجود. بالرغم من عدم وجوده, إلا أنه يلعب دورا هاما فى تصورنا وأفكارنا. العلوم والفنون والفلسفة والمنطق والرياضيات، كذلك حياتنا اليومية لا تخلو من تصور و واستخدام هذا الشئ المسمى باللاشئ.
هل اللاشئ له خواص؟ نعم. منها أنه غير موجود, وأنه يدل على لاشئ, ولا يحتوي شئ, ولا ينتج منه شئ. ليس له وزن أو حجم أو لون أو طعم أو رائحة أو ملمس. لا يوجد إلا فى تصورنا, مثل الدائرة والخط المستقيم والغول والعنقاء والخل الوفي.
اعتقدت "أليس" فى كتاب "لويس كارول" أنه كلام فارغ فى فارغ عندما قدم لها الأرنب نبيذا غير موجود. وعندما أعجب الملك الأبيض بمقدرتها على رؤية لا أحد على الطريق.
لننظر إلى الحفرة مثلا. كنا نتساءل كنوع من اختبار الذكاء, ماهو حجم كمية التراب التى توجد داخل حفرة طولها مترا وعرضها مترا وأرتفاعها مترا؟ الأجابة الصحيحة هى لاشئ. فالحفرة لا توجد بها أتربة. لكن لها طول وعرض وإرتفاع.
كتب "لاوتسي" فى كتاب "تاو تي شنج": الثقب فى مركز العجلة هو الذى يجعلها مفيدة. الفراغ فى الباب وفي النافذة, هو الذي يجعلهما مفيدين. الربح يأتي من الأشياء, لكن الفائدة تأتي من الثقوب والفراغات, أى من اللاشئ.
كان المصريون القدماء يهتمون بالصمت, ويعتبرونه أبلغ من الكلام. لذلك فهو فضيلة تدعو إليها كل القيم النبيلة. وفى قصيدة لا تكذبى, ذكر كامل الشناوي "الصمت الرهيب". فكيف يكون الصمت رهيبا وهو عبارة عن لاشئ؟
من أين تأتي عقدة الحبل؟ أين تذهب حين تحل؟ هل العقدة يمكن وجودها بدون الحبل؟ هل اللون يمكن أن يوجد بدون الشئ؟ هل الموجة يمكن أن توجد بدون الماء؟ عندما تهدأ الرياح, أين تذهب الأمواج؟
هل الحق والعدل أشياء فى حد ذاتها؟ أم هي من اختراع العقل؟ هل يمكن أن يكون هناك صوت، عندما لا توجد أذن تستمع إليه؟ هل الكون كما نعرفه, يمكن أن يوجد بدون العقل الذى يدركه؟ هل الشئ يمكن أن يوجد بدون اللاشئ؟
فى الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن تغير مفهومنا للفراغ. الفراغ بين النجوم والذرات ليس عدما كما كنا نعتقد. إنما هو ملئ بجزئيات ومضادات جزئيات المادة. فى حالة خلق وفناء مستمرين.
الفراغ يبدو فراغا لأننا ننظر إليه فى زمن طويل نسبيا. كمن ينظر إلى سطح المحيط من مسافة بعيدة, فنراه هادئا ساكنا, بينما هو ملئ بالأمواج والعنف. الفراغ هو كل الفيزياء الحديثة. وكل ما هو موجود أو ممكن قد أتى أو سوف يأتي من هذا الفراغ أو اللاشئ.
المادة تتكون عندما تحدث التواءات حادة فى هذا الفراغ, مثل الالتواءات التى تحدث فى طيات الملابس. المادة هى عقدة الحبل أو إنثناءات الفراغ الكوني.
عندما تنهار النجوم والمجرات تحت تأثير ثقلها وقوة الجاذبية, تكون مايعرف بالثقوب السوداء. هذه الثقوب السوداء موجودة فى الفضاء الخارجي, ولا يستطيع أن يهرب منها شئ, حتى الضوء لا يستطيع الهرب من جاذبيتها. الثقوب السوداء تعتبر نوافذ في عالمنا هذا تقودنا إلى عوالم أخرى وأزمان أخرى.
تصور "ديراك" عالم الفيزياء الذى تنبأ بوجود مضادات جزيئات الذرة, أن البوزترون "مضاد الإلكترون" ماهو إلا ثقب أو فجوة داخل شحنة سالبة. عندما يتقابل البوزترون مع الإلكترون, فإن الإلكترون يقع فى حفرة البوزترون, ويؤدي هذا إلى تلاشي كلا منهما ويصبحان لاشئ.
الأمثلة على اللاشئ فى الفنون كثيرة. الفراغ المحيط بالأشكال له أهمية بالغة فى التكوين الفني للوحات الفنية. فى سنة 1951م, بدأ الرسام الأمريكى "رينهاردت" المتوفي سنة 1967م, فى رسم لوحات فنية عبارة عن مساحات مسطحة كلها لون واحد, ودرجة واحدة. كلها أزرق, كلها أحمر, ثم لوحات كلها أسود.
فى سنة 1963م, عرضت إحدى لوحاته, وهي عبارة عن مسطح أسود فى شكل مربع طول ضلعه 5 أقدام فى صالونات نيويورك وباريس ولوس أنجلوس ولندن.
أحد النقاد علق بأن هذا خداع ونصب فى عالم الفن. آخرون أبدوا اعجابهم بالفكرة وقدرتها على التعبير عن نقاء النفس. الغريب أن لوحات "رينهاردت" كانت تباع سنة 1965م بمبالغ تتراوح بين 1500-12000 دولارا. وحيث أن اللون الأسود ناتج عن غياب الضوء. فإن لوحات رينهاردت يمكن اعتبارها محاولة لتصوير اللاشئ.
"جون كيج" مؤلف موسيقي للبيانو, يطلب من عازفي موسيقاه فترة من الصمت المطبق خلال العزف قدرها 4 دقائق و33 ثانية بالضبط. وفتر الصمت هذه (273 ثانية) تناظر درجة الصفر المطلق الحرارية (-273 درجة مئوية) والتى عندها تتوقف جزيئات المادة عن الحركة. يقال أن من استمع إلى فترة الصمت هذه, يعتبرها أحسن أعمال كيج الموسيقية.
"البرت هيوبارت" كتب مقالة عن الصمت, عبارة عن صفحات بيضاء ليست بها كتابة. فى عام 1974م, صدر كتاب بعنوان "كتاب اللاشئ" عن دار النشر "هارموني هوس" عبارة عن عدة صفحات بيضاء. لاقى كتاب اللاشئ رواجا لدرجة أن دار النشر أعادت نشره فى طبعة فاخرة سنة 1975م.
كان هناك رجل ينام فى فنارة تطلق صفارة إنذار للسفن كل 10 دقائق لتفادي الضباب. فى إحدى اللياي بعد منتصف الليل, تعطل الجهاز الميكانيكي الذى كان يطلق الصفارة, فاستيقظ الرجل مذعورا صائحا: "إيه فى إيه".
غياب المياه قد يسبب موت. فقد الحبيب أو الثروة قد يؤدي إلى الانتحار. الصمت فى بعض المواقف يعتبره القانون جريمة. فى أحد قصص "شرلوك هولمز", كان عدم نباح كلب فى أحد الليالي, هو السبب فى حل لغز القصة البوليسية. أي أن اللاشئ له تأثير الشئ وبنفس العنف.
فى العصور الوسطى كان الخوف من الموت مصحوبا بالخوف من عذاب النار. أما فى أوروبا اليوم, فالخوف من الموت أصبح هو الخوف من أن تصبح لاشئ. هذا يقودنا إلى السؤال الخالد. لمذا؟ لقد تساءل مئات الفلاسفة, ليبنزيج, شيلينج, شوبنهور,...الخ. لماذا هناك شئ بدلا من لا شئ؟
هذا سؤال فضولي ليس كباقي الأسئلة. كثير من الناس تعيش وتموت بدون أن تفكر فيه. أما الفيلسوف "مارتن هيدجر", فيعتبره أعمق وأهم سؤال فى كل الأسئلة الميتافيزيقية. الواقعيون وأصحاب التفكير الإيجابي يعتبرونه سؤالا تافها. لأنه سؤال ليست له إجابة عملية أو منطقية.
إنه سؤال غير ذات معنى, مثل سؤال- هل العدد 2 لونه أحمر أو أخضر؟ أما "ميلتون ميونيتز", الذى ألف كتابا كاملا عن معنى الوجود, يعتبر السؤال له معناه. لكن المشكلة تأتي من عدم قدرتنا على إجابته. لأن الإجابة تقع خارج العلوم والفلسفة.
بالنسبة للرياضيات, اكتشاف الصفر عن طريق الهنود, ساعد الخوارزمي على وضع أصول علم الحساب والجبر. الصفر بالرغم من أنه ليست له قيمة عددية إلا أنه عدد. وجوده بين الأرقام له أهمية كبرى. فالرقم عشرة لايمكن التعبير عنه إلا باستخدام الصفر في خانة الآحاد والرقم واحد في خانة العشرات. وكذلك الرقم 100 والرقم 1000.
المجموعة الصفرية أو العدمية التى تتكون من لاشئ, هى أساس الرياضيات الحديثة. وهى تختلف عن الصفر من حيث أن الصفر عدد ليست له قيمة, أما المجموعة الصفرية فهى مجموعة بداخلها لاشئ. وقد بنى فريج نظرية الأعداد بدءا من المجموعة الصفرية كبديهية لا تحتاج إلى برهان.
من هنا تتضح أهمية اللاشئ بالنسبة لفهمنا للأشياء. ومن يدري فربما يكون عالمنا هو عالم اللاشئ بالنسبة لعوالم أخرى تتكون من الشئ. أو يكون عالمنا هو عالم الشئ بالنسبة لعوالم أخرى تتكون من اللاشئ.